جدل الثقافة لم يبدأ من وهران

27 يوليو 2016
منير فاطمي/ المغرب
+ الخط -

في أية مناسبة ثقافية في الجزائر، ينسحب النقاش الجوهري إلى الخلف، تاركاً الواجهة لجدل موسمي تغذّيه شبكات التواصل الاجتماعي التي تتّجهُ، في كلّ مرّة، صوب "قضية" آنية تُثير اهتمام الرأي العام، فتتناولها بكثير من السطحية، ثمّ سرعان ما تنصرف عنها إلى قضية أخرى أكثر آنية وإثارةً.

"مهرجان وهران للفيلم العربي"، الذي يُسدَل الستارُ على فعاليات دورته التاسعة مساء اليوم، لم يشذ عن تلك القاعدة. فكما في الدورات الماضية، أحيت الصور القادمة من مدينة وهران، غربي الجزائر، الجدل الذي انصبّ، هذه المرّة، على الحديث عن جدوى الإنفاق على تظاهرات ثقافية لا تعود بأيّة مداخيل على الاقتصاد الوطني، خصوصاً أن المهرجان السينمائي يتزامن مع فعاليتين أخريين؛ هما "مهرجان تيمقاد الدولي" في محافظة باتنة، و"مهرجان جميلة العربي" في محافظة سطيف.

لكن النقاش حول هذه الجزئية، تحديداً، عادةً ما ينحو بُعداً شعبوياً؛ حيثُ يصبح أصحاب الرأي الرافض لأي إنفاق حكومي على الثقافة هم الأكثر حضوراً والأعلى صوتاً. هؤلاء كثيراً ما يُبدون تحفّظاً إزاء النشاطات الثقافية التي يرون فيها شكلاً من أشكال البذخ والتبذير لا يتماشى مع الوضع الاقتصادي الذي تعيشه البلاد بسبب سقوط أسعار النفط، والذي دفع بالحكومة إلى تبنّي سياسة التقشّف وترشيد النفقات التي مسّت مجالات حيوية وذات اتصال مباشر بحياة المواطنين.

اللافت أن حدّة هذا الرفض تتناقص، أو تتلاشى، حين يتعلّق الأمرُ بقطاعات أخرى؛ فلا أحد يتحدّث عن تبذير المال العام إلّا حين يتعلّق الأمر بالثقافة. هكذا، يوجّه الناقمون على الوضع سهام نقدهم إلى المسؤولين المتعاقبين على "هضبة العناصر" (مقرّ وزارة الثقافة) مردّدين، في كلّ مرة، بأن المبالغ المنفقة في هذا المهرجان أو ذاك تكفي لإنجاز كذا عدد من السكنات أو المدارس أو المستشفيات، بينما الأصوب أن تُوجَّه تلك الانتقادات إلى القائمين على قطاعات السكن أو التعليم أو الصحّة، وأن يُسألوا عن ميزانياتهم فيمَ صرفوها، بما أن قطاع الثقافة يحصل على حصّة خاصّة به من ميزانية الدولة، وهي، بالمناسبة، الأضعف بين جميع القطاعات.

لا يعني هذا، بالطبع، أن قطاع الثقافة بقي بعيداً عن فضائح الفساد التي هزّت أكثر من قطاع في السنوات الأخيرة؛ فهو الآخر يظلُّ مجالاً يفضّله كثيرٌ من المنتفعين والانتهازيين الذين لا يمتّون إلى الثقافة بصلة، كما يعاني من سوء تسيير واضح، سببه الرئيسي غياب إستراتيجية شاملة للقطاع.

يُعيدنا هذا الحديث إلى "مجّانية" الثقافة في الجزائر، والتي تجعل من المهرجانات والتظاهرات الثقافية التي تُقام بتنظيم رسمي مجرّد حدث روتيني يهدف إلى التنفيس وإضفاء جوّ فرجوي على المشهد العام، من دون أن تعود بفائدة على الاقتصاد، ومن دون أن ترتبط بعائدات تجارية تُسهّل تحديد الناجح من الفاشل منها، وبالتالي معرفة جدوى استمرارها.

وزير الثقافة، عز الدين ميهوبي، بدا، منذ مجيئه على رأس القطاع، في أيار/ مايو 2015، متحمّساً لهذا الجانب أكثر من غيره؛ حيثُ لم يفوّت مناسبةً من دون أن يتحدّث عن ضرورة بعث تصوّر جديد يتجاوز مجانية الثقافة ويجعلها خدمةً، كغيرها من الخدمات التي تُقدّم للمواطن، داعياً إلى ما يسمّيه "الاستثمار الثقافي" الذي يحوّل الثقافة من قطاع مستهلك إلى منتج.

لكن الوزير، لم يقدّم تصوّراً واضحاً لمشروعه. فبعد سنة ونصف، لم يوضّح الآليات التي يُمكن أن تُسهم في تطبيقه، هو الذي يعلم أن الذهاب مباشرةً إلى فرض مقابل مادي على حضور النشاطات الثقافية يعني طرد الجمهور الثقافي الذي يشكو المشتغلون في الثقافة أصلاً من ندرته.

هكذا، يستمرُّ الوضع على حاله، وسط خفوت الأصوات النقدية في الصحافة الثقافية في الجزائر، بعد تحوّل عددٍ كبير من المشتغلين فيها إلى المؤسّسة الرسمية بمختلف تفرّعاتها.

أمّا الأصوات النقدية التي ترتفع، في الشبكات الاجتماعية غالباً، فكثيراً ما تختلط بضجيج الشعبوية التي تعجُّ بها الأخيرة؛ حيثُ لم يعُد ممكناً الإمساك بخيط واضح بين ما ينشره محسوبون على المشهد الثقافي والإعلامي وما ينشره مراهقون على حسابات وهمية.

في "مهرجان وهران"، انصبّ اهتمام الجميع بصور وزير الثقافة (المعروف بحبه للصور) مع ممثّلة ومغنّية لبنانية، وبدت جميع التعليقات في مستوىً واحد، بينما قلّة فقط تجاوزت الآني، بحثاً عن أسئلة أكثر إلحاحاً وجدية.

في حالة ميهوبي، القادم من الحقل الثقافي أصلاً، يبدو تفاعل المشهد الثقافي محكوماً بالعلاقة الشخصية أكثر من أيّ شيء آخر، ما خلّف حالةً من الاستقطاب؛ إذ تكاد الآراء حول أدائه في القطاع تنقسم حصراً بين فريقين، كلّ منهما متطرّف في مواقفه سلباً أو إيجاباً، بحسب علاقته بالوزير.

عن تعاطي النخبة مع المشهد الثقافي، علّق الكاتب عبد الرزاق بوكبة عبر صفحته على فيسبوك قائلاً: "كم سيرتاح أيّ وزير للثقافة، حين يرى النخبة الفنية والثقافية تناقش طريقة التقاطه للصور، لا تصوّره للفعل الثقافي. من الطبيعي أن يتفاعل الجمهور العادي مع حركات الشخصيات العامّة استحساناً واستهجاناً، لكن هل يُعقل أن تنضمّ النخبة إلى هذا النوع من التفاعل العابر مع حركة عابرة، وتنسى مهمتها الأصل: أن تتفاعل مع الأسئلة الجوهرية المتعلّقة بالمشروع الثقافي الوطني الغائب/ المغيّب؟ والذي من ثمار غيابه وتغييبه التركيز على الصورة لا التصوّر؟".

المساهمون