27 سبتمبر 2018
جدال في شأن "إنسانية" الرأسمالية
هل الرأسمالية إنسانية؟ يتكرّر طرح هذا السؤال في أوساط تدّعي أنها تنتمي إلى الماركسية، ولطالما أسّست تيارات ماركسية تصوراتها على هذا الأساس، أو على أساس تقديم الرأسمالية ودورها "التحضيري". وربما كانت فقرة في البيان الشيوعي (1848)، تبيّن أنها خاطئة، الأساس الذي كان يغذّي هذا الميل إلى "تبييض" الرأسمالية، والتعلُّق بها، وكيل المديح لها.
شكلت الرأسمالية نقلة نوعية في التطور البشري، وهي تصعد مدمّرة الإقطاع، ومؤسِّسة نمطا حضاريا جديدا بعد اكتشاف الصناعة. وبالتالي، كانت بلا شك مرحلة أرقى في التاريخ البشري. لكن، هل نستطيع أن نظلّ نكرّر ذلك، بعد أن نضجت وتوسعت واحتلت ونهبت؟ حتى ماركس الذي أشار إلى "الدور التحضيري" للرأسمالية، وأنها سوف تدكّ أسوار حتى الأمم الأكثر همجيةً عبر سلعها، اكتشف كيف أنها قامت على نهب الأمم الأخرى، وعلى تدمير اقتصاداتها، من ذهب أميركا إلى الهند والصين وعبيد أفريقيا. وبالتالي، اكتشف بربريتها هي، وميلها الوحشي إلى تدمير حضارات الشعوب في سعيها إلى نهب هذه الحضارات. أعطى ذلك كله له مسمى "التراكم الأولي"، أو "التراكم البدائي" الذي أسس لنشوء الرأسمالية. بمعنى أن الرأسمالية قامت أصلاً على نهب الشعوب واستعبادها وسحقها، وتدمير حضارتها.
على الرغم من ذلك، كانت فكرة إنسانية الرأسمالية قد تكرّرت في تاريخ الرأسمالية، وظهرت خلافات عديدة بشأن هذا الأمر، فقد جرى تفسير إشارات "البيان الشيوعي" إلى دور الرأسمالية في مواجهة الإقطاع، وتحقيقها الانتقال الى مجتمع جديد، بشكلٍ جعل الرأسمالية تحمل كل سمات التقدّم والإنسانية والحضارة. وكذلك جرى فهم الإشارات في "البيان" حول دور الرأسمالية "التحضيري" وهي تتوسع وتحتلّ، تأكيدا لدورها الإنساني.
وكانت هذه الفكرة حول إنسانية الرأسمالية، ودورها "التحضيري"، جزءاً من الصراع في إطار التيارات الماركسية خلال الحرب العالمية الأولى، حيث ظل جزءٌ من هؤلاء ينظر بـ "عين الرضى" والإيجابية إلى الرأسمالية، وإلى "إنسانيتها" حتى وهي تخوض حرباً مدمرة بين دولها. وقد ظلت هذه الفكرة كامنة، تظهر حيناً وتتراجع أخرى. تظهر أحياناً في صلب
المنتمين إلى الماركسية، وأخرى لدى منشقين عنها. حكم ذلك كل سنوات القرن العشرين، خصوصاً بعد أن ظهر مأزق الأمم الرأسمالية، بعد أن حققت هذه حالةً من الاستقرار الطبقي، همَّش الصراع الطبقي، أو عزله في حدود ضيّقة. على الرغم من أن ماركسيي العالم كانوا مندفعين إلى الصراع ضد الرأسمالية، وكان النظام السوفييتي يعزّز الميل إلى تسويد الرأسمالية، وتكريس الخطاب الذي يُظهر عيوبها، حتى ما كان إيجابياً لديها كان يجري تسويده، لكي لا تظهر إيجابية تدفع الشعوب إلى قبول الرأسمالية. كل ذلك على الرغم من أن الخطاب السوفييتي كان يقوم على ضرورة تحقُّق التطور الرأسمالي في الأطراف، وكان يرفض كل ميلٍ إلى انتصار الاشتراكية فيها. ومن انتصر كان على خلافٍ مع الدولة السوفييتية، من الصين والهند الصينية إلى كوبا.
وقد قاد انهيار الاشتراكية، ومن ثم الأزمة الاقتصادية التي انفجرت سنة 2008 في أميركا، وطاولت كلية النظام الرأسمالي، عودة ميْلين ينظران إلى الرأسمالية من منظور "إنسانيتها". ظهر الأول عقب انهيار الاتحاد السوفييتي وظهور مصطلح، وخطاب، العولمة. حيث جرى ربط العولمة بالتطور التكنولوجي بالتحديد، وتأسّس تصورٌ حول تطور الرأسمالية حضارياً، بما يجعلها تتجاوز عنفها ونهبها السابقين، وأنها باتت تنحكم لقيم الحرية والديمقراطية، وأصبحت تتقدّم لتحقيق مصالح الشعوب، أو للدفاع عن الشعوب، خصوصاً بعد صدور قرار من الأمم المتحدة عن "التدخل العسكري الإنساني". وكان الخطاب الذي عمّمته الرأسمالية يركّز على الحرية والديمقراطية، و"يحثُّ" على دعم الحركات التي تدعو إلى ذلك، بل دعم تشكيل حركاتٍ تدعو إلى ذلك. بمعنى أن الرأسمالية تخلت عن وحشيتها واستغلالها ونهبها، وباتت إنسانيةً تريد ارتقاء الشعوب، وتجاوزت استخدام العنف للقبول بالنضال السلمي الإنساني، وتعميم حرية الرأي، وأنه في وضعٍ كهذا ليس من موقعٍ للثورات، بالضبط لأن الخيار الوحيد يتمثل في "النضال اللاعنفي"، و"الإصلاح الديمقراطي"، والديمقراطية قيمة مطلقة. يصل الأمر إلى حدّ التدخل العسكري الإمبريالي، من أجل "فرض" الديمقراطية.
دفع هذا الوهم قطاعا من اليسار إلى الميل يميناً والتلبرل، حتى أكثر من ذلك، الاندغام بـ "الغرب"، أو الاستلاب تجاهه. وفي مفارقةٍ، بات هذا القطاع يقبل التدخل العسكري للدول الرأسمالية، ويرحّب أشدّ ترحيب بذلك، منطلقاً من أن هدف تدخلها هو تحقيق الديمقراطية، بعد التخلص من النظم الاستبدادية. ولهذا، بات يقبل الاحتلال والاستعمار تحت حجة "إنسانية" الرأسمالية و"دورها التحضيري" الذي سوف يؤدي إلى بناء نظم ديمقراطية، وسوف يعمّم الحرية في كل العالم. لقد بلغ الاستلاب حدّ التبعية المطلقة، وتمثّل الخطاب الإمبريالي، وبالتالي الدفاع العنيف عن الليبرالية والاقتصاد الحرّ، والتمحور حول هدفٍ وحيد هو: الديمقراطية، على الرغم من أن هذا اليسار المتلبرل لم يكن ديمقراطياً في تكوينه، ولم يعرف الديمقراطية في ممارساته.
إذن، الرأسمالية باتت إنسانية، وما علينا سوى أن نلتصق بها، أن نتبعها، لأن ذلك هو أساس
تحقيق "إنسانيتنا"، حتى وإنْ تم ذلك من خلال الحرب والاحتلال. وأن تطوّرنا مرتبط بذلك، حيث يجب أن نتمثل "القيم الغربية"، ولا يتحقّق ذلك إلا بالتبعية لها، بالضبط لأنهم يجب أن يعلمونا، وإنْ كان الأمر يحتاج الى التدخل والاحتلال. هنا، يظهر تحكُّم "منظور إمبريالي" بكل هؤلاء، وخضوعهم لاستلاب شامل، تحت حجة الحرية والديمقراطية.
الميل الثاني، ظهر على ضوء "نهوض" روسيا بعد الأزمة المالية التي عانتها الرأسمالية الأميركية، وسعيها إلى التوسّع الخارجي، وهو ما ظهر واضحاً في تدخلها في سورية. كان ظهور روسيا يُفسّر على أنه على حساب أميركا، وأنها باتت تناهض "الإمبريالية الأميركية". لهذا باتت على رأس "قوى السلم العالمي الصاعدة"، التي تريد فرض "القانون الدولي" (كما كتب قدري جميل). لقد أجزل قطاع من اليسار في توصيف طبيعة روسيا الراهنة، من الإشارة إلى ميلها الاستقلالي، إلى أنها مع "تحرّر الشعوب" ضد التسلط الأميركي، إلى أنها رأسمالية داعمة للشعوب، وما إلى ذلك من توصيفاتٍ تعطي الرأسمالية سماتٍ إيجابية، و"إنسانية"، و"تحرّرية"، وحتى "ثورية"، وأكثر من ذلك القول إن صراعها مع الإمبريالية الأميركية يدفعها إلى الاشتراكية. هكذا بالضبط كما يرد في برنامج حزب الإرادة الشعبية في سورية. ينطلق كل تيار "اليسار الممانع" من الأفكار هذه ذاتها، ويكيل المديح لروسيا ودورها العالمي، ويبرّر تدخلاتها وحروبها، وحتى وحشيتها. وعلى ضوء ذلك، بات احتلالها سورية أمراً إيجابياً، وهو ليس احتلالاً أصلاً، لأن وجودها قائم على طلبٍ من "نظام شرعي"، وقد أتت لمحاربة الإرهاب، ودعم "وحدة سورية"، و"هزيمة المخطط الإمبريالي"، وإفشال "مشروع الشرق الأوسط" و"الفوضى الخلاقة". وباتت كل وحشيتها ضد الشعب السوري واستخدامها أكثر أسلحتها تطوراً، وفتكاً، واستعراضها العسكري بغرض تسويق سلاحها، كي تزيد من صفقات بيعه، وتدميرها مدنا وبلدات وأحياء، وكذلك قصف الأسواق والمدارس والمشافي والبيوت، مبرّرة، بالضبط لأنها موجهة ضد الإرهاب، وتهدف إلى الحفاظ على سورية مستقلة، ومتحرّرة، و"مناهضة للإمبريالية"، على أساس أن النظام فيها لم يعد تابعاً لروسيا الإمبريالية.
إحالة إلى الإمبريالية
نلمس هنا أن المبرّر وطني، وليس إنسانياً كما في الميل الأول. ويتأسس ليس على فهم وضع روسيا وقيمها بذاتها، بل على دورها العالمي "ضد" الإمبريالية الأميركية الذي يجري تفسيره بأنه يخدم تحرّر الشعوب. وانطلاقاً من ذلك، يجري نفي إمبرياليتها، بل هناك مَنْ يصوّرها دولة ضعيفة و"مسكينة" من دول الأطراف التي تريد التحرّر من التبعية للإمبريالية الأميركية، على الرغم من ضخامة جيشها وتطورها العلمي والتكنولوجي والصناعي، وطموحها للسيطرة والاحتلال ككل إمبريالية ناهضة.
اللافت أن الميليْن يرفضان مصطلح إمبريالية للدول الرأسمالية التي يدافعان عنها، فالتيار الذي "أصابه الهوس الأميركي" يرفض توصيفها بأنها إمبريالية، لأنها لا تحتل، بل "تساعد الشعوب في تحقيق حريتها". كذلك التيار الذي "وقع في غرام روسيا ما بعد السوفييتية" يرفض توصيفها بأنها إمبريالية، وأيضاً لأنها لا تحتل، بل "تساعد الشعوب في تحقيق الحرية". بالتالي، فإن كليهما يرى أن الرأسمالية باتت "إنسانيةً"، حيث تريد حرية الشعوب واستقلال الدول وتطبيق القانون الدولي. لكنّ كلٌاً يميل إلى إمبرياليته، وكأن صداماً يحدث بينهما، وليس تنافساً يبحث عن توافقٍ في سياق تقاسم جديد للعالم.
سأتجاوز تعبير إمبريالية في توصيف روسيا هنا، وأنطلق من التعبير الدارج الذي يوصّفها بأنها رأسمالية فقط (على الرغم من أن ميل كل رأسمالية هو نحو الإمبريالية، وليس من رأسماليةٍ وصلت إلى مرحلة بناء الصناعة ونشوء الاحتكارات إلا أن باتت إمبرياليةً، كما حاججت
طويلاً، وأصلاً كما تؤكد الماركسية)، فهل يمكن أن نقول إن هناك رأسمالية إنسانية؟
هذا نقاش قديم ظهر نهاية القرن التاسع عشر في إطار الأممية الثانية، وظهر كذلك أنه قد حُسم حينها. ولهذا، ألصقت الأحزاب الشيوعية كل الشرور بالرأسمالية، ورفضت حتى التطور في شكل النظام السياسي الذي أعطى فسحةً أوسع قليلاً لدور الشعب، حيث جرى اعتباره "ديمقراطية بورجوازية" ممقوتة. والواضح الآن، أنه من داخل هذه الأحزاب، ظهر الميْلان اللذان أشارت إليهما السطور السابقة. فالتيار الذي عاد يمجّد الرأسمالية نشأ من شيوعيين ومن "اليسار الجديد"، والتيار الذي يمجّد الرأسمالية الجديدة نشأ من المصدر ذاته. لنعود إلى فكرة "الرأسمالية الإنسانية"، وإن كان كل تيار يقصد رأسماليةً محدَّدة، هي ضد الرأسمالية الأخرى، على الرغم من أن الواقع سوف يُظهر توافقهما.
الربح أساسا وجوهرا
نعود بالتالي إلى "الرأسمالية الإنسانية"، هل يمكن أن تكون الرأسمالية إنسانية؟ هذا ممكن فقط إذا ما تخلت الرأسمالية عن الربح، فهل يمكنها ذلك أصلاً؟ الربح هو "ديدن الرأسمالية" كما قال ماركس، ولا يمكنها العيش بدون الربح والربح الأعلى وهكذا. فهي تُنتج السلعة لكي تبيعها في السوق، وهي تراكم الربح لتوظيفه في السوق كذلك. لهذا، ينشأ الميل لديها لإيجاد الأسواق، و"فتحها" (هكذا بكل معنى الكلمة). كما تريد هزيمة المنافسين في السوق، أو حرمانهم منه. ومن أجل ذلك، ترتكب كل الجرائم والفظائع، أيضاً حسب ماركس. لهذا، نجدها تتقاتل للسيطرة على العالم، ولتقاسم المصالح حين يكون ذلك ممكناً. وقد شرح لينين ذلك بتفصيل. كما أن أدوار أميركا، منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، واضحة في التدخل العسكري والاحتلال والقتل وتعميم الإرهاب لاستغلال ذلك في تدخلها. وقد ارتكبت مجازر في أفغانستان والعراق ترقى إلى أن تكون جرائم ضد الإنسانية. وارتكبت روسيا في الشيشان وأبخازيا وأوكرانيا، وخصوصاً في سورية، المجازر التي ترقى كذلك إلى أن تمثّل جرائم ضد الإنسانية.
هل تطورت الرأسمالية بما يجعلها تتجاوز ذلك؟ هل ارتقت "حضارياً"؟ أو هل أن الرأسمالية التي نشأت حديثاً بعد انهيار الاشتراكية أكثر "إنسانية"، ومع حقوق الشعوب وتحرّرها؟
لكن، هل تخلت عن تصدير سلعها، ورأسمالها، وعن الربح؟ بالتأكيد لا، وحتى حينما باتت مالية (أي يتمركز نشاطها في المضاربات) زادت من وحشيتها، وباتت معنيةً بالنهب بشرهٍ أكثر، وبدعم مافيات، وأيضاً باتت ترى أن جزءاً من شعوب العالم بات زائداً. لهذا، أخذت تعمم كل ما يؤدي إلى الموت والقتل. لكن المشكلة أعوص لدى الرأسمالية الجديدة: روسيا، فهي كما كانت ألمانيا، أصبحت رأسمالية والعالم مهيمن عليه من الرأسمالية القديمة، وتوقعت أن تقاسمها تلك الرأسمالية الأسواق، لكنها باتت تزيد من عنفها للحصول على ذلك، فالرأسمالية لا تعيش بدون الأسواق (كذلك حسب ماركس)، لتصدير السلع (وهنا السلاح والنفط والغاز خصوصاً)، والرأسمال (ومافياتها تمتلك ما يفرض ذلك). لهذا، ليس أمامها إلا أن "تُبرز نيوبها"، لكي تفرض السيطرة على الأسواق.
هل في ذلك إنسانية؟
تظهر في سورية الأمور واضحة، حيث خطاب "إنساني"، وممارسة وحشية، فهي تريد السيطرة لتوفير سوق لـ "شركاتها" (كما صرّح سفيرها في دمشق). وبالتالي، لا شك في أنها تريد أن تُبعد "السيطرة الأميركية"، و"تُفشل المخطط الإمبريالي". لكن، من أجل أنْ تُنجح مخططها في السيطرة والاستحواذ. أن تكون سورية سوقاً لشركاتها ورأسمالها، ومرتكزاً جيوسياسياً لقواعدها العسكرية في ظل سعيها إلى دور عالمي مهيمن.
لن تكون الرأسمالية إنسانية، لأن ديدنها الربح، والربح الأعلى، حتى على حساب قتل الشعوب. هذا هو مختصر الأمر. وبالتالي، كل ما يُطرح باسم اليسار لا صلة له باليسار، بل يعبّر عن أوهام فئاتٍ وسطى، تطمح لأن تترسمل. وكل من أشرت إليه قبلاً يقع في هذه الوضعية بلا شك.
شكلت الرأسمالية نقلة نوعية في التطور البشري، وهي تصعد مدمّرة الإقطاع، ومؤسِّسة نمطا حضاريا جديدا بعد اكتشاف الصناعة. وبالتالي، كانت بلا شك مرحلة أرقى في التاريخ البشري. لكن، هل نستطيع أن نظلّ نكرّر ذلك، بعد أن نضجت وتوسعت واحتلت ونهبت؟ حتى ماركس الذي أشار إلى "الدور التحضيري" للرأسمالية، وأنها سوف تدكّ أسوار حتى الأمم الأكثر همجيةً عبر سلعها، اكتشف كيف أنها قامت على نهب الأمم الأخرى، وعلى تدمير اقتصاداتها، من ذهب أميركا إلى الهند والصين وعبيد أفريقيا. وبالتالي، اكتشف بربريتها هي، وميلها الوحشي إلى تدمير حضارات الشعوب في سعيها إلى نهب هذه الحضارات. أعطى ذلك كله له مسمى "التراكم الأولي"، أو "التراكم البدائي" الذي أسس لنشوء الرأسمالية. بمعنى أن الرأسمالية قامت أصلاً على نهب الشعوب واستعبادها وسحقها، وتدمير حضارتها.
على الرغم من ذلك، كانت فكرة إنسانية الرأسمالية قد تكرّرت في تاريخ الرأسمالية، وظهرت خلافات عديدة بشأن هذا الأمر، فقد جرى تفسير إشارات "البيان الشيوعي" إلى دور الرأسمالية في مواجهة الإقطاع، وتحقيقها الانتقال الى مجتمع جديد، بشكلٍ جعل الرأسمالية تحمل كل سمات التقدّم والإنسانية والحضارة. وكذلك جرى فهم الإشارات في "البيان" حول دور الرأسمالية "التحضيري" وهي تتوسع وتحتلّ، تأكيدا لدورها الإنساني.
وكانت هذه الفكرة حول إنسانية الرأسمالية، ودورها "التحضيري"، جزءاً من الصراع في إطار التيارات الماركسية خلال الحرب العالمية الأولى، حيث ظل جزءٌ من هؤلاء ينظر بـ "عين الرضى" والإيجابية إلى الرأسمالية، وإلى "إنسانيتها" حتى وهي تخوض حرباً مدمرة بين دولها. وقد ظلت هذه الفكرة كامنة، تظهر حيناً وتتراجع أخرى. تظهر أحياناً في صلب
وقد قاد انهيار الاشتراكية، ومن ثم الأزمة الاقتصادية التي انفجرت سنة 2008 في أميركا، وطاولت كلية النظام الرأسمالي، عودة ميْلين ينظران إلى الرأسمالية من منظور "إنسانيتها". ظهر الأول عقب انهيار الاتحاد السوفييتي وظهور مصطلح، وخطاب، العولمة. حيث جرى ربط العولمة بالتطور التكنولوجي بالتحديد، وتأسّس تصورٌ حول تطور الرأسمالية حضارياً، بما يجعلها تتجاوز عنفها ونهبها السابقين، وأنها باتت تنحكم لقيم الحرية والديمقراطية، وأصبحت تتقدّم لتحقيق مصالح الشعوب، أو للدفاع عن الشعوب، خصوصاً بعد صدور قرار من الأمم المتحدة عن "التدخل العسكري الإنساني". وكان الخطاب الذي عمّمته الرأسمالية يركّز على الحرية والديمقراطية، و"يحثُّ" على دعم الحركات التي تدعو إلى ذلك، بل دعم تشكيل حركاتٍ تدعو إلى ذلك. بمعنى أن الرأسمالية تخلت عن وحشيتها واستغلالها ونهبها، وباتت إنسانيةً تريد ارتقاء الشعوب، وتجاوزت استخدام العنف للقبول بالنضال السلمي الإنساني، وتعميم حرية الرأي، وأنه في وضعٍ كهذا ليس من موقعٍ للثورات، بالضبط لأن الخيار الوحيد يتمثل في "النضال اللاعنفي"، و"الإصلاح الديمقراطي"، والديمقراطية قيمة مطلقة. يصل الأمر إلى حدّ التدخل العسكري الإمبريالي، من أجل "فرض" الديمقراطية.
دفع هذا الوهم قطاعا من اليسار إلى الميل يميناً والتلبرل، حتى أكثر من ذلك، الاندغام بـ "الغرب"، أو الاستلاب تجاهه. وفي مفارقةٍ، بات هذا القطاع يقبل التدخل العسكري للدول الرأسمالية، ويرحّب أشدّ ترحيب بذلك، منطلقاً من أن هدف تدخلها هو تحقيق الديمقراطية، بعد التخلص من النظم الاستبدادية. ولهذا، بات يقبل الاحتلال والاستعمار تحت حجة "إنسانية" الرأسمالية و"دورها التحضيري" الذي سوف يؤدي إلى بناء نظم ديمقراطية، وسوف يعمّم الحرية في كل العالم. لقد بلغ الاستلاب حدّ التبعية المطلقة، وتمثّل الخطاب الإمبريالي، وبالتالي الدفاع العنيف عن الليبرالية والاقتصاد الحرّ، والتمحور حول هدفٍ وحيد هو: الديمقراطية، على الرغم من أن هذا اليسار المتلبرل لم يكن ديمقراطياً في تكوينه، ولم يعرف الديمقراطية في ممارساته.
إذن، الرأسمالية باتت إنسانية، وما علينا سوى أن نلتصق بها، أن نتبعها، لأن ذلك هو أساس
الميل الثاني، ظهر على ضوء "نهوض" روسيا بعد الأزمة المالية التي عانتها الرأسمالية الأميركية، وسعيها إلى التوسّع الخارجي، وهو ما ظهر واضحاً في تدخلها في سورية. كان ظهور روسيا يُفسّر على أنه على حساب أميركا، وأنها باتت تناهض "الإمبريالية الأميركية". لهذا باتت على رأس "قوى السلم العالمي الصاعدة"، التي تريد فرض "القانون الدولي" (كما كتب قدري جميل). لقد أجزل قطاع من اليسار في توصيف طبيعة روسيا الراهنة، من الإشارة إلى ميلها الاستقلالي، إلى أنها مع "تحرّر الشعوب" ضد التسلط الأميركي، إلى أنها رأسمالية داعمة للشعوب، وما إلى ذلك من توصيفاتٍ تعطي الرأسمالية سماتٍ إيجابية، و"إنسانية"، و"تحرّرية"، وحتى "ثورية"، وأكثر من ذلك القول إن صراعها مع الإمبريالية الأميركية يدفعها إلى الاشتراكية. هكذا بالضبط كما يرد في برنامج حزب الإرادة الشعبية في سورية. ينطلق كل تيار "اليسار الممانع" من الأفكار هذه ذاتها، ويكيل المديح لروسيا ودورها العالمي، ويبرّر تدخلاتها وحروبها، وحتى وحشيتها. وعلى ضوء ذلك، بات احتلالها سورية أمراً إيجابياً، وهو ليس احتلالاً أصلاً، لأن وجودها قائم على طلبٍ من "نظام شرعي"، وقد أتت لمحاربة الإرهاب، ودعم "وحدة سورية"، و"هزيمة المخطط الإمبريالي"، وإفشال "مشروع الشرق الأوسط" و"الفوضى الخلاقة". وباتت كل وحشيتها ضد الشعب السوري واستخدامها أكثر أسلحتها تطوراً، وفتكاً، واستعراضها العسكري بغرض تسويق سلاحها، كي تزيد من صفقات بيعه، وتدميرها مدنا وبلدات وأحياء، وكذلك قصف الأسواق والمدارس والمشافي والبيوت، مبرّرة، بالضبط لأنها موجهة ضد الإرهاب، وتهدف إلى الحفاظ على سورية مستقلة، ومتحرّرة، و"مناهضة للإمبريالية"، على أساس أن النظام فيها لم يعد تابعاً لروسيا الإمبريالية.
إحالة إلى الإمبريالية
نلمس هنا أن المبرّر وطني، وليس إنسانياً كما في الميل الأول. ويتأسس ليس على فهم وضع روسيا وقيمها بذاتها، بل على دورها العالمي "ضد" الإمبريالية الأميركية الذي يجري تفسيره بأنه يخدم تحرّر الشعوب. وانطلاقاً من ذلك، يجري نفي إمبرياليتها، بل هناك مَنْ يصوّرها دولة ضعيفة و"مسكينة" من دول الأطراف التي تريد التحرّر من التبعية للإمبريالية الأميركية، على الرغم من ضخامة جيشها وتطورها العلمي والتكنولوجي والصناعي، وطموحها للسيطرة والاحتلال ككل إمبريالية ناهضة.
اللافت أن الميليْن يرفضان مصطلح إمبريالية للدول الرأسمالية التي يدافعان عنها، فالتيار الذي "أصابه الهوس الأميركي" يرفض توصيفها بأنها إمبريالية، لأنها لا تحتل، بل "تساعد الشعوب في تحقيق حريتها". كذلك التيار الذي "وقع في غرام روسيا ما بعد السوفييتية" يرفض توصيفها بأنها إمبريالية، وأيضاً لأنها لا تحتل، بل "تساعد الشعوب في تحقيق الحرية". بالتالي، فإن كليهما يرى أن الرأسمالية باتت "إنسانيةً"، حيث تريد حرية الشعوب واستقلال الدول وتطبيق القانون الدولي. لكنّ كلٌاً يميل إلى إمبرياليته، وكأن صداماً يحدث بينهما، وليس تنافساً يبحث عن توافقٍ في سياق تقاسم جديد للعالم.
سأتجاوز تعبير إمبريالية في توصيف روسيا هنا، وأنطلق من التعبير الدارج الذي يوصّفها بأنها رأسمالية فقط (على الرغم من أن ميل كل رأسمالية هو نحو الإمبريالية، وليس من رأسماليةٍ وصلت إلى مرحلة بناء الصناعة ونشوء الاحتكارات إلا أن باتت إمبرياليةً، كما حاججت
هذا نقاش قديم ظهر نهاية القرن التاسع عشر في إطار الأممية الثانية، وظهر كذلك أنه قد حُسم حينها. ولهذا، ألصقت الأحزاب الشيوعية كل الشرور بالرأسمالية، ورفضت حتى التطور في شكل النظام السياسي الذي أعطى فسحةً أوسع قليلاً لدور الشعب، حيث جرى اعتباره "ديمقراطية بورجوازية" ممقوتة. والواضح الآن، أنه من داخل هذه الأحزاب، ظهر الميْلان اللذان أشارت إليهما السطور السابقة. فالتيار الذي عاد يمجّد الرأسمالية نشأ من شيوعيين ومن "اليسار الجديد"، والتيار الذي يمجّد الرأسمالية الجديدة نشأ من المصدر ذاته. لنعود إلى فكرة "الرأسمالية الإنسانية"، وإن كان كل تيار يقصد رأسماليةً محدَّدة، هي ضد الرأسمالية الأخرى، على الرغم من أن الواقع سوف يُظهر توافقهما.
الربح أساسا وجوهرا
نعود بالتالي إلى "الرأسمالية الإنسانية"، هل يمكن أن تكون الرأسمالية إنسانية؟ هذا ممكن فقط إذا ما تخلت الرأسمالية عن الربح، فهل يمكنها ذلك أصلاً؟ الربح هو "ديدن الرأسمالية" كما قال ماركس، ولا يمكنها العيش بدون الربح والربح الأعلى وهكذا. فهي تُنتج السلعة لكي تبيعها في السوق، وهي تراكم الربح لتوظيفه في السوق كذلك. لهذا، ينشأ الميل لديها لإيجاد الأسواق، و"فتحها" (هكذا بكل معنى الكلمة). كما تريد هزيمة المنافسين في السوق، أو حرمانهم منه. ومن أجل ذلك، ترتكب كل الجرائم والفظائع، أيضاً حسب ماركس. لهذا، نجدها تتقاتل للسيطرة على العالم، ولتقاسم المصالح حين يكون ذلك ممكناً. وقد شرح لينين ذلك بتفصيل. كما أن أدوار أميركا، منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، واضحة في التدخل العسكري والاحتلال والقتل وتعميم الإرهاب لاستغلال ذلك في تدخلها. وقد ارتكبت مجازر في أفغانستان والعراق ترقى إلى أن تكون جرائم ضد الإنسانية. وارتكبت روسيا في الشيشان وأبخازيا وأوكرانيا، وخصوصاً في سورية، المجازر التي ترقى كذلك إلى أن تمثّل جرائم ضد الإنسانية.
هل تطورت الرأسمالية بما يجعلها تتجاوز ذلك؟ هل ارتقت "حضارياً"؟ أو هل أن الرأسمالية التي نشأت حديثاً بعد انهيار الاشتراكية أكثر "إنسانية"، ومع حقوق الشعوب وتحرّرها؟
لكن، هل تخلت عن تصدير سلعها، ورأسمالها، وعن الربح؟ بالتأكيد لا، وحتى حينما باتت مالية (أي يتمركز نشاطها في المضاربات) زادت من وحشيتها، وباتت معنيةً بالنهب بشرهٍ أكثر، وبدعم مافيات، وأيضاً باتت ترى أن جزءاً من شعوب العالم بات زائداً. لهذا، أخذت تعمم كل ما يؤدي إلى الموت والقتل. لكن المشكلة أعوص لدى الرأسمالية الجديدة: روسيا، فهي كما كانت ألمانيا، أصبحت رأسمالية والعالم مهيمن عليه من الرأسمالية القديمة، وتوقعت أن تقاسمها تلك الرأسمالية الأسواق، لكنها باتت تزيد من عنفها للحصول على ذلك، فالرأسمالية لا تعيش بدون الأسواق (كذلك حسب ماركس)، لتصدير السلع (وهنا السلاح والنفط والغاز خصوصاً)، والرأسمال (ومافياتها تمتلك ما يفرض ذلك). لهذا، ليس أمامها إلا أن "تُبرز نيوبها"، لكي تفرض السيطرة على الأسواق.
هل في ذلك إنسانية؟
تظهر في سورية الأمور واضحة، حيث خطاب "إنساني"، وممارسة وحشية، فهي تريد السيطرة لتوفير سوق لـ "شركاتها" (كما صرّح سفيرها في دمشق). وبالتالي، لا شك في أنها تريد أن تُبعد "السيطرة الأميركية"، و"تُفشل المخطط الإمبريالي". لكن، من أجل أنْ تُنجح مخططها في السيطرة والاستحواذ. أن تكون سورية سوقاً لشركاتها ورأسمالها، ومرتكزاً جيوسياسياً لقواعدها العسكرية في ظل سعيها إلى دور عالمي مهيمن.
لن تكون الرأسمالية إنسانية، لأن ديدنها الربح، والربح الأعلى، حتى على حساب قتل الشعوب. هذا هو مختصر الأمر. وبالتالي، كل ما يُطرح باسم اليسار لا صلة له باليسار، بل يعبّر عن أوهام فئاتٍ وسطى، تطمح لأن تترسمل. وكل من أشرت إليه قبلاً يقع في هذه الوضعية بلا شك.