في تلك الليلة، بعد ساعتين من الانفجار، أرسل لي زميلي شاكر صورة لمكتبي. دمار وركام فقط، لكنني لا أرى غير الكرسي الأخضر، ثابتاً في مكانه أمام ما كان يوماً ما شباكاً يطلّ على مرفأ بيروت. وعلى الكرسي أرى جثة. لا بد أنها جثّتي: هذا وجهي مشوّه، وهذا شعري مرفوع بقلم أزرق، وهذا قيمصي الأسود يخفي بقع الدم.
هي جثتي حتماً، لكنها لا تخيفني. الجثث جزء أصيل من نشأتي. ولدت عام 1985، وبعد 4 أيام هربت بي أمي إلى ملجأ تحت الأرض. عشت سنواتي الأولى وأنا أخزّن قصصاً قديمة وجديدة عن جثث عادت مقطّعة وموضوعة في أكياس بلاستيكية إلى عائلاتها. جثث بقيت أسابيع أمام حواجز المليشيات، وجثث أغرقها مقاتلون في البحر. كبرت وأنا أرى جثث أطفال الجنوب مرفوعة أمام عدسات المصوّرين، لعلّ العالم يوقف الجنون الإسرائيلي. عملت سنوات وأنا أغطّي قصص نساء تحوّلن إلى جثث على يد أزواجهن، وجثث عاملات أجنبيات قيل لنا إنهنّ انتحرن. كوّنت وعيي السياسيّ على صور جثث خارجة من المعتقلات العربية.
أؤرّخ لسنواتي الـ35 في عدد الجثث التي رأيتها. لا تخيفني الجثث ولا رائحتها أو شكلها، لكنّها هذه المرة فقط لا تغضبني. أغمض عينيّ، وأعيد سرد الوقائع في رأسي: 2750 طنّاً من المواد المتفجّرة تركها السياسيون والأمنيون والإداريون بيننا، بين أطفال وعمّال ورجال ونساء، ولا أغضب. ألتهم كل تغريدات الغضب على تويتر، أقرأ ما يكتبه أهالي الضحايا، ورفاق يريدون سحل السياسيين جميعاً، ولا أغضب. أشاهد عشرات المتظاهرين يسقطون أرضاً برصاص مطاطي وحيّ، ولا أغضب. أبكي فقط، وأبكي في أوقات متقطّعة: حين يطلب مني ابني أن أعقد شريط حذائه أبكي، حين تطلب مني ابنتي تغيير تسريحة شعرها، أبكي. حين أشاهد تغريدة لانطلاق مسبار إلى الفضاء أبكي.
لم أمت في الانفجار، لكن داخل بيروت المقبرة، على كرسيّ أخضر تركت جثّتي ليلة الرابع من آب
قبل أيام قليلة فقط، كان الغضب يأكل أجزاءً من جسدي، كيف تحوّل كل هذا الحقد إلى دموع فقط؟ أفتح وكالات الأنباء، وأنظر إلى صور الدمار الكبير. أقرّب الصور. أبحث تحت الركام الظاهر عن جثث قد تكون بقيت مخفية عن الجميع. أبحث على مواقع التواصل عن فيديوهات ولو كاذبة لانتشال أحياء من تحت الركام. 7 أيام وأنا مقتنعة بأنّ انتشال الأحياء ممكن. أنام لساعات متقطعة وأصحو وصوت الانفجار يتردّد في رأسي، ويد تمسك قلبي وتعصره. لم أمت في الانفجار، لم أكن في بيروت يومها أصلاً، لكن ثمة ما يخنقني ويمنعني من الحراك، غصّة عالقة في الحلق، لا تخرج، ولا تختفي.
لم تكن بيروت يوماً مدينتي المفضّلة، أحبّ أثينا وأحبّ إشبيلية، لكن بيروت كانت مدينتي. تماماً كأمّ تعلم أنّ ابنها سيبقى عاقاً وعبئاً طيلة العمر، لكنه ابنها، مصيرها. من يستطيع الهرب من مصيره؟ جيلي أنا، عبر إلى بيروت محملاً بكل هزائم وخيبات الأهل في الحرب. واحتضنتنا المدينة، أعطتنا أصدقاء وعملاً ونضالات صغيرة. أعطتنا شوارع نمشي فيها ونصنع في أحيائها ذكريات. خلعت عنّا بيروت ميراثاً ثقيلاً من الحقد الطائفي والمناطقي. طهّرتنا. لكن في ذلك اليوم، انفجرت كل تلك الذكريات، واختلطت بنترات الأمونيوم لتدمّر المدينة، وأهلها.
بيروت ليست نجمتنا ولا خيمتنا، وحتماً ليست تفاحة. بيروت مقبرة، مقبرة واسعة في الهواء الطلق. غداً حين يعيدون إعمار المدينة بأموال المساعدات التي تمطرنا، حين يعود من بقي حياً من الموظفين إلى أعمالهم في الجميزة ومار مخايل والكرنتينا والأشرفية ووسط بيروت، سيعودون إلى مبانٍ وطرقات شيّدت فوق دماء وأرواح وبقايا جثث، لم ينتشلها أحد. أمّا أنا فلم أمت في الانفجار، لكن داخل بيروت المقبرة، على كرسيّ أخضر تركت جثّتي ليلة الرابع من آب.