جثمان أوسلو في التشييع الأخير

28 نوفمبر 2014
+ الخط -

كذب كل من جزم بأن اتفاقية أوسلو انتهت، بدخول الأراضي الفلسطينية، في انتفاضة ثانية، نقطة تحول في الكفاح الفلسطيني، بعد التأكد من أن إسرائيل تريد فرض أمر واقع جديد، خارج عن نص الاتفاقيات التي لم تكن أصلا مقبولة لكثيرين من المجتمع الفلسطيني، وخصوصاً في الشتات، فاستمرت إسرائيل في زيادة وتيرة الاستيطان وتضييق الخناق على المدينة المقدسة وسكانها، فيما أراضي الضفة الغربية، وقطاع غزة عاشت في حكم ذاتي هزيل، ينتهك جيش الاحتلال الإسرائيلي حرماته في كل وقت، ومن دون استئذان، وقد كلفنا ذلك غاليا بفقدان شهداء كثيرين، وأسرى كثيرين عددهم يزيد ولا ينقص.

إذن، لا يوجد مفهوم حقيقي للسلام، بقدر ما هو خدعة، لم تنطلِ على الفلسطينيين، بقدر ما انطلت على القائمين على المشروع. بل إن هذا السلام قطع أوصال المجتمع الفلسطيني، فأوجد ثلاث تجمعات رئيسية منعزلة، القدس بين الضفة وغزة. وفرضت إسرائيل قيوداً على تواصل هذا المجتمع، انعكس، في سنوات طويلة على التركيبة المجتمعية، وأحدث فجوة كبيرة في النسيج الاجتماعي، بدليل أن أول قرار جاء بعد انتفاضة الأقصى إغلاق الممر الآمن، وهو الطريق الوحيد الذي كان يربط بين الضفة وغزة، وساهم في خروج آلاف من سكان القطاع للعمل والتواصل مع الضفة الغربية، وإيجاد روابط اجتماعية. فعادت إسرائيل إلى تقطيع أوصال الفلسطينيين من جديد، ووقف هذا البناء المجتمعي، حتى في ظل حكم ذاتي، لا يسمن ولا يغني من جوع. فأغلب سنوات أوسلو كانت الحياة إما تسهيلات أو تعقيدات يومية، وليست حلولا جذرية توحي بوجود مفاوضات تفضي إلى حلول نهائية تشكل دولة فلسطينية؛ سواءً في حق عودة اللاجئين، أو إقامة الدولة الفلسطينية بعاصمتها القدس على حدود 67، وغيرها من الحقوق.
كنت أرى دائما أن حق العودة يجب أن يسبق الدولة، كاختبار حقيقي للنيات الإسرائيلية. ولكن اتفاقية أوسلو طعنت عدة مرات من الخلف، بسكينة إسرائيلية حادة، وأحدّ من طعنات القدس اليوم. فتسارعت القوى الدولية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية، إلى إنعاشها، في محاولة لإبقاء هيكل أوسلو ليتنفس صناعياً، في وقت دخل فيه حالة الموت السريري، ويحيطه المستفيدون إسرائيلياً وفلسطينياً لإبقاء الجثمان في غرفة العناية. ليؤخذ على المفاوضين الفلسطينيين غياب الرؤية المستقبلية والبدائل في حال عدم التزام إسرائيل بما تم التوقيع عليه، مع تنازل كبير قدمه الفلسطينيون من دون مقابل بقبول إقامة دولة على 22% من فلسطين التاريخية. وحتى لو وافقت إسرائيل على عودة اللاجئين، فلم تتحدث مطلقا عن العودة الكاملة لهم، والحديث كان يدور عن أرقام وإحصائيات ولاجئي لبنان وسورية كأولوية، ومن كانوا في الهجرة الأولى، فلو عادوا سيصبح المجتمع الفلسطيني بالمفهوم الواقعي مقسماً إلى أربع شرائح رئيسية: شريحة مواطنة، ستبقى في الدولة الفلسطينية "أراضي 67" ومقسمة بين ضفة وغزة، وشريحة عائدة، كانت تسمى اللاجئين، وهؤلاء عليهم الاندماج في دولة إسرائيل وعدم وجود ارتباط حقيقي بينهم وبين مواطني الدولة الفلسطينية، وشريحة عام 1948 التي هي، بالأصل، لم تهاجر وتنزح في الحرب، ويشكلون نسبة كبيرة في إسرائيل، وشريحة أهالي القدس المحاصرين بكل أحوال الحلول، أي حتى في الحلول النهائية لم يكن هناك مقياس حقيقي لترابط المجتمع الفلسطيني الذي تصر إسرائيل على إبقائه مشتتاً، حتى لو كان في جغرافيا واحدة.
واليوم ماذا تبقّى من اتفاقية أوسلو وإرثها سوى قليل من الامتيازات وسلطتين بين رام الله وغزة، وصراع أيدولوجيات فكرية، وصل إلى حد لم تعتبر فيه إسرائيل العدو الأول بالمفهوم القومي العربي الكلاسيكي. وهذا ما فكرت إسرائيل في تحقيقه من اتفاقيات السلام، ونجحت بشكل كبير في ذلك، فعزلت الضفة عن غزة، وأبقت مَن في الشتات بعيدين عن المشهد، في حين يقف اليوم أبناء أوسلو حول الجثمان، يتباكون في تشييع جنائزي كنسي مهيب، لإلقاء النظرة الأخيرة، بغير اقتناع بأن الجثة تحللت وتعفّنت، ووجب دفنها، فحاملو رسالة أوسلو من الفلسطينيين يقنعون أنفسهم كل لحظة بأنها طوق النجاة لهم، والإسرائيليون يتمسكون بها أداة تقتل الكيان الفلسطيني كل يوم وكلما بقيت. والاثنان يكابران بأن مشروعهم الذي عاش في كنفهم أكثر من عشرين عاماً قد مات، باستشهاد الغزيين في الحروب الثلاث الأخيرة، وباستشهاد الضفاويين منذ اجتياح 2002، وباستشهاد المقدسيين منذ اندلاع انتفاضة 2000. مات المشروع، مات الولد، وإكرام الميت دفنه، ولا كرامة لأوسلو حتى اللحظة للدفن.

avata
avata
عبد الحميد أبو النصر (فلسطين)
عبد الحميد أبو النصر (فلسطين)