جبر الضرر يثير جدالاً في تونس

15 ديسمبر 2018
نفذوا اعتصامات عديدة (ياسين قايدي/ الأناضول)
+ الخط -
ثمّة جدال كبير يدور بين مختلف الأطراف السياسية والمجتمع المدني في تونس حول جبر الضرر والتعويض المالي للمتمتّعين بالعفو التشريعي العام. وهو جدال يُثار كلّما فتح ملف التعويضات وصندوق الكرامة وسط تساؤلات عن مصدر تلك الأموال التي سوف تُصرف كتعويضات لآلاف الأشخاص وكيفية تمويل الصندوق.

في عام 2013، أثير الجدال بعدما نفّذ عشرات المتمتّعين بالعفو التشريعي العام أكثر من اعتصام أمام قصر رئاسة الحكومة ومجلس نواب الشعب، للمطالبة بتفعيل أوّل مرسوم صدر بعد ثورة 2011، وهو المرسوم رقم واحد لسنة 2011 المتعلق بالعفو التشريعي العام ومنحهم تعويضات. وقد تمّ كإجراء أوّل منح نحو ألفَي دولار أميركي تعويضات لأكثر من 3500 شخص، إلى جانب تشغيل أكثر من سبعة آلاف شخص وتعيينهم في بعض الإدارات العمومية. كذلك، تمّ في عام 2013 سنّ قانون يتعلّق بإرساء العدالة الانتقالية وإنشاء صندوق الكرامة وردّ الاعتبار إلى ضحايا الاستبداد. وفي فبراير/ شباط 2018، صدر أمر حكومي في فبراير/ شباط 2018 يتعلّق بضبط طرق تمويل الصندوق. وينصّ الأمر على أنّ "موارد الصندوق تتكوّن من نسبة من الأموال الراجعة لميزانية الدولة والمتأتية من تنفيذ القرارات التحكيمية الصادرة عن لجنة التحكيم والمصالحة المحدثة. وتضبط هذه النسبة بقرار من رئيس الحكومة. وكذلك يموّل الصندوق من الهبات والتبرعات والعطايا غير المشروطة إلى جانب المصادر الأخرى التي يمكن رصدها لفائدة الصندوق". كذلك ينصّ على "رصد اعتمادات من ميزانية الدولة عند فتح الصندوق في حدود 3.5 ملايين دولار". وقد كُلّفت مهمّة التصرّف في صندوق الكرامة إلى لجنة حكومية تتألف من ممثل عن رئيس الحكومة وممثلين عن بعض الوزارات، وهم يُعيّنون بقرار من رئيس الحكومة بناءً على اقتراحات الوزارات المعنيّة.




من جهتها، قبل أيام، أصدرت هيئة الحقيقة والكرامة القرار الإطاري المتعلق بمعايير جبر الضرر لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان، والذي يضبط معايير التعويض المادي والمعنوي. وينصّ الفصل الرابع من هذا القانون على أنّ "التعويض عن الضررَين المادي والمعنوي يتم بناء على جسامة انتهاك حقوق الإنسان، إذ يُعوّض عن الانتهاكات الماسة من الحق في الحياة (القتل العمد، والموت تحت التعذيب، والإعدام من دون توفّر ضمانات المحاكمة العادلة، والفقدان، والاختفاء القسري مع عدم الظهور) بإسناد قيمة مائة في المائة ضارب الوحدة الحسابية"، من دون أن يحدد قيمة هذه الوحدة بالدينار. يضيف الفصل الرابع أنّ "كل ضحية تتمتع بقسط من مبلغ التعويض كتسبقة، وبالنسبة لكبار السن وذوي الإعاقة يتمّ صرف المبلغ المتبقي في شكل جراية سنوية. ويقع صرف التعويضات النهائية لبقية الضحايا مرة واحدة أو على أقساط سنوية لا تتجاوز ست سنوات".

ويُثار الجدال اليوم من جديد، منذ انطلاق مناقشة قانون المالية لسنة 2019 بين الكتل البرلمانية، خصوصاً بين كتلة النهضة التي تدافع عن صندوق الكرامة والحق في رد الاعتبار وبين حركة نداء تونس الرافضة مبدأ التعويضات والتي قدّمت مقترحاً إلى البرلمان يتضمن حذف صندوق الكرامة وتحويل موارده إلى ميزانية الدولة حتى تخصّص لتنفيذ برنامج العائلات المعوزة. ولم تنقسم المواقف داخل البرلمان فقط، فقد اختلفت كذلك لدى الرأي العام والمجتمع المدني. بحسب بعض التونسيين، فإنّ رد الاعتبار حق لهؤلاء الأشخاص بعد سنوات الظلم التي عاشوها في السجون، في خلال حكم الحبيب بورقيبة وحكم المخلوع زين العابدين بن علي، مع ضرورة تعويضهم عن التضييق والملاحقات الأمنية التي حرمتهم حتى من العمل. ويؤكد ذلك البعض أنّه سبق وتمّ العمل بهذا الإجراء في دول أخرى شهدت ثورات. لكنّ آخرين يرون أنّ النضال لا ثمن له ولا يُباع ولا يُشترى، وأنّه لا يمكن اعتبار أنّ الظلم يتعلّق فقط بمن دخل السجن، إذ إنّ عدداً كبيراً من التونسيين عانوا الاضطهاد والظلم والفقر في خارج السجون ويستحقون بدورهم التعويض. بالنسبة إلى هؤلاء، فإنّه من غير المنطقي أن تُثقَل الدولة حالياً بتعويضات عن انتهاكات ارتُكبت في السابق. في السياق، يوضح خبراء في الاقتصاد أنّ موارد الدولة لا تسمح بصرف تعويضات دفعة واحدة، مقترحين دفع تلك التعويضات على أقساط سنوية لمستحقيها أو منحها على شكل مشاريع توفّر فرص شغل لهم وتدعم النسيج الاقتصادي.

مهرية مسعودي من ضحايا النظام السابق، وهي تعرّضت للتعذيب في داخل السجون. حُرمت كغيرها من سجينات الرأي من مواصلة الدراسة والعمل طيلة سنوات. تقول لـ"العربي الجديد" إنّ "قضية التعويض للمتمتّعين بالعفو التشريعي العام تمّ تسييسها بالفعل، وجبر الضرر ما هو إلا جبر معنوي. وهو لا يتعلّق فقط بالسجناء الإسلاميين، بل يشمل كلّ من تعرّض للظلم وانتهكت حقوقه بعيداً عن أيّ أيديولوجية أو انتماء". تضيف مسعودي أنّ "النضال لا يُباع ولا يُشترى بالفعل، لكنّه يجب رد الاعتبار كالتعويض عن سنوات قمع تمّ فيها حرمان الآلاف من العمل ومواصلة الدراسة والعيش بطريقة عادية".




من جهته، يشير رئيس لجنة التحكيم بهيئة الحقيقة والكرامة، خالد الكريشي، لـ"العربي الجديد"، إلى أنّ "الجدال اليوم ليس جديداً. كلّما أثير ملف التعويضات، اختلفت الآراء حول قضية هي واضحة ومقررة في قانون العدالة الانتقالية". يضيف أنّ "جبر الضرر لضحايا الانتهاكات ركيزة من ركائز مسار العدالة الانتقالية المتفق عليها، وهو يقضي بضرورة رد الاعتبار لكلّ من ظلم سابقاً. والإجراء سوف يشمل كل من تعرّض فعلاً لانتهاك في زمن النظامَين السابقَين". ويستغرب الكريشي "توجيه الاتهام دائماً إلى الإسلاميين، والحال أنّ التعويضات تشمل أشخاصاً كثيرين على اختلاف انتماءاتهم، من قوميّين ويساريّين إلى جانب نقابيين اضطهدوا سابقاً وأشخاص اضطهدوا بعد الثورة". يتابع أنّ "ثمّة متضررين قدّموا إلى الهيئة ملفات بسبب تعرّضهم لتمييز عنصري أو ديني"، مؤكداً أنّ "جبر الضرر ليس مادياً فقط". ويلفت إلى أنّ "الجزء الأكبر من تمويل الصندوق سوف يكون من مساهمات وهبات أو أموال محصّلة في إطار المصالحة والتحكيم". يُذكر أنّ الفصل 11 من قانون العدالة الانتقالية ينصّ على أنّ جبر ضرر ضحايا الانتهاكات حقّ يكفله القانون، والدولة مسؤولة عن توفير أشكال الجبر الكافي والفعال بما يتناسب مع جسامة الانتهاك ووضع كل ضحية.