29 سبتمبر 2017
جان شمعون الذي أحبه الفلسطينيون
هذا رثاءٌ لرجل أحببناه وأحبّنا. رثاءٌ لمراتب الحبّ البهية، وسمو معانيه، حين لا يغيب في الغياب، ولا فيما يصيبه من خدوش وجروح في معتركات الزمن المتقلب. رثاء فلسطيني لجان شمعون، اللبناني الذي كان حضوره بيننا، ومعنا وإلى جانبنا وفي قلوبنا، دليلاً لنا في العتمة نحو كوّة الصفاء والضوء، ويداً تمتد إلى بؤسنا، لتربت على وحدته وشجنه، وحاجته إلى المحبة. كان جان شمعون الآتي إلى محبتنا، كما يأتي المسيح ببهائه إلى الرجل الأعمى، أو الأبرص، ليقول لنا أنا معكم. وظلّ معنا، كما ظلّ المسيح مع المصابين في أرواحهم وأجسادهم، ولم يتخلّ عنا، كما لم يتخل المسيح عن الإنسان.
وقف جان شمعون مع الفلسطينيين بفكره وفعله، وصنع أفلاماً تشبه الفلسطينيين كما تشبهه. أفلامه كأفلام الفلسطينيين في المرحلة التي عمل معهم في مؤسسة السينما الفلسطينية، حتى أنك وأنت تشاهدها لا يأتي في بالك أن المخرج ليس فلسطينياً، فهو رآنا كما رأينا أنفسنا، حتى في ارتفاع منسوب الوطنية، وربما المبالغة فيها، ورأى فينا مقاومين وضحايا، كما كانت رؤيتنا دائماً لأنفسنا. وتماهى في أفلامه مع جراحنا، كأنه واحد منا، من أهل البيت، وليس مراقباً من الخارج، كما رأى إلينا آخرون، انطلاقاً من رؤيتهم الخاصة، وأفكارهم الوطنية والفكرية والسياسية السائدة في بلادهم.
صنع جان شمعون أفلامه ببساطة ووضوح، وأحياناً ببراءة الفلسطيني في رؤيته لذاته. ربما هذا من أسباب محبة الفلسطينيين له، واعتباره ابناً بارّاً للجماعة الكسيرة.
حين كنا نسمع صوت جان شمعون عبر الأثير في برنامجه "قول الله بعدنا طيبين" مع زياد الرحباني، كانت قلوبنا ترتعش محبةً لهذا الصوت الآتي من عمق الجبل المتماهي مع أحاسيس الناس في اللحظات الصعبة من الحرب الأهلية. صوته يعلق في الذهن، ويجعلك تحسّ بأنه على وشك أن يطلق ضحكته الصاخبة في كل لحظة.
هذا رثاء لجان شمعون، وليس غوصاً في أفلامه. رثاءٌ للمسيحي الذي لازم الجرح الفلسطيني إلى نهاية دربه، ونهاية التوهج في دربنا، وانكساره وتشتّته وضياعه وهزيمته، كما على المسيحي أن يكون. كان اللبنانيون المسيحيون المثقفون الذين انحازوا إلى الفلسطينيين قلةً في جحيم الحرب الأهلية، وكان الفلسطينيون يقدّرونهم أيما تقدير، فقد كانوا شهادة عدالةٍ لقضيتهم، وتطهراً مما حُشروا فيه في أتون الحرب الأهلية اللبنانية، والتنازع المرير بين الطوائف الذي لم ينجح الفلسطينيون في أن يكونوا لا خارج الحشر، ولا خارج التنازع، بل صاروا في لحظةٍ ما جزءاً منه. وكان هؤلاء، ومنهم جان شمعون، الذين سكنوا في بيروت الغربية في ذروة التنازع الأهلي، والذبح على الهوية الدينية والطائفية، يعطون لبيروت الغربية وجهها الكامل، وهويتها غير الناقصة. وكان الفلسطينيون، مؤسسات سياسية ومثقفين خارج العصبية التنظيمية والوطنية، يرون إلى هؤلاء اللبنانيين ميزاناً لأرواحهم، وسبباً لإنقاذها من الأتون القاتل والملتهب، وغوثاً لها من السقوط المريع. نعم، كنا نفرح بهؤلاء، ونحبهم، ونلتقي بهم بكل الشوق والأنس والمودة نتحدث، ويسري بيننا أمان وسلام، وطموح في أن نرى عالمنا غير هذا العالم تالف العقل.
قبل أربع سنوات، كانت آخر لقاء لي مع جان شمعون في بيته، وبيت شريكته في الحياة، المخرجة الفلسطينية مي المصري. وكان قد دخل في منعرجاتٍ بعيدة عن العالم الذي يجمعنا. كان المرض قد شق طريقه إلى ذاكرته، وراح يعبث بها، وكأن المرض يريده أن يسافر بعيداً عن هذا الواقع المتفسّخ والمهزوم الذي نعيش فيه اليوم، لكن المرض لم يستطع أن يهزم ضحكته، ولا أن يخدش إيقاعاتها المتعدّدة التي حين تسمعها تحسّ بجبال تهتز من صخورها الدفينة. ضحكة فلاح ربما، أو ربما ضحكة عاشقٍ للحياة، المستأنس بمعرفته بها، وتطويعها، لكي تبقى حياة بريئة وحنونة.
وقف جان شمعون مع الفلسطينيين بفكره وفعله، وصنع أفلاماً تشبه الفلسطينيين كما تشبهه. أفلامه كأفلام الفلسطينيين في المرحلة التي عمل معهم في مؤسسة السينما الفلسطينية، حتى أنك وأنت تشاهدها لا يأتي في بالك أن المخرج ليس فلسطينياً، فهو رآنا كما رأينا أنفسنا، حتى في ارتفاع منسوب الوطنية، وربما المبالغة فيها، ورأى فينا مقاومين وضحايا، كما كانت رؤيتنا دائماً لأنفسنا. وتماهى في أفلامه مع جراحنا، كأنه واحد منا، من أهل البيت، وليس مراقباً من الخارج، كما رأى إلينا آخرون، انطلاقاً من رؤيتهم الخاصة، وأفكارهم الوطنية والفكرية والسياسية السائدة في بلادهم.
صنع جان شمعون أفلامه ببساطة ووضوح، وأحياناً ببراءة الفلسطيني في رؤيته لذاته. ربما هذا من أسباب محبة الفلسطينيين له، واعتباره ابناً بارّاً للجماعة الكسيرة.
حين كنا نسمع صوت جان شمعون عبر الأثير في برنامجه "قول الله بعدنا طيبين" مع زياد الرحباني، كانت قلوبنا ترتعش محبةً لهذا الصوت الآتي من عمق الجبل المتماهي مع أحاسيس الناس في اللحظات الصعبة من الحرب الأهلية. صوته يعلق في الذهن، ويجعلك تحسّ بأنه على وشك أن يطلق ضحكته الصاخبة في كل لحظة.
هذا رثاء لجان شمعون، وليس غوصاً في أفلامه. رثاءٌ للمسيحي الذي لازم الجرح الفلسطيني إلى نهاية دربه، ونهاية التوهج في دربنا، وانكساره وتشتّته وضياعه وهزيمته، كما على المسيحي أن يكون. كان اللبنانيون المسيحيون المثقفون الذين انحازوا إلى الفلسطينيين قلةً في جحيم الحرب الأهلية، وكان الفلسطينيون يقدّرونهم أيما تقدير، فقد كانوا شهادة عدالةٍ لقضيتهم، وتطهراً مما حُشروا فيه في أتون الحرب الأهلية اللبنانية، والتنازع المرير بين الطوائف الذي لم ينجح الفلسطينيون في أن يكونوا لا خارج الحشر، ولا خارج التنازع، بل صاروا في لحظةٍ ما جزءاً منه. وكان هؤلاء، ومنهم جان شمعون، الذين سكنوا في بيروت الغربية في ذروة التنازع الأهلي، والذبح على الهوية الدينية والطائفية، يعطون لبيروت الغربية وجهها الكامل، وهويتها غير الناقصة. وكان الفلسطينيون، مؤسسات سياسية ومثقفين خارج العصبية التنظيمية والوطنية، يرون إلى هؤلاء اللبنانيين ميزاناً لأرواحهم، وسبباً لإنقاذها من الأتون القاتل والملتهب، وغوثاً لها من السقوط المريع. نعم، كنا نفرح بهؤلاء، ونحبهم، ونلتقي بهم بكل الشوق والأنس والمودة نتحدث، ويسري بيننا أمان وسلام، وطموح في أن نرى عالمنا غير هذا العالم تالف العقل.
قبل أربع سنوات، كانت آخر لقاء لي مع جان شمعون في بيته، وبيت شريكته في الحياة، المخرجة الفلسطينية مي المصري. وكان قد دخل في منعرجاتٍ بعيدة عن العالم الذي يجمعنا. كان المرض قد شق طريقه إلى ذاكرته، وراح يعبث بها، وكأن المرض يريده أن يسافر بعيداً عن هذا الواقع المتفسّخ والمهزوم الذي نعيش فيه اليوم، لكن المرض لم يستطع أن يهزم ضحكته، ولا أن يخدش إيقاعاتها المتعدّدة التي حين تسمعها تحسّ بجبال تهتز من صخورها الدفينة. ضحكة فلاح ربما، أو ربما ضحكة عاشقٍ للحياة، المستأنس بمعرفته بها، وتطويعها، لكي تبقى حياة بريئة وحنونة.