"كانط أبله"، كتب أحدهم في العام الماضي على جدار بيت الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، خارج مدينة كالينينغراد. وفي السنة نفسها تسبب خلاف بين شابين حول الفيلسوف في مدينة روسية بمشاجرة تحوّلت إلى إطلاق نار.
قليلة هي المشاجرات التي تسببها الفلسفة في الواقع، لكنها أكثر من أن تحصى في الكتب، وربما تحدث إحدى المشادات الذهنية وأنت تقرأ كانط، ربما تزعجك مجاهدته في سبيل مسار وسطي في تاريخ الفلسفة يكترث بالمثالي والواقعي: في الفلسفة غرفة للإيمان وغرفة أصغر للعقل، في السياسة هناك الطاعة وتقابلها حرية التفكير، هناك التنوير حقاً لكن ينبغي أن يكون تدريجياً.
كان كانط يريد أن يلقم التنوير بالملعقة للطبقات الفقيرة، مطمئناً قلب الأرستقراطية؛ الحداثة قادمة، صحيح لن تستطيعوا منعها، لكن ليس بالضرورة أن تجلب الفوضى معها، أو تحطم النظام كما نعرفه من حولنا بل ستعززه، اطمئنوا ستدخل حياة الفقراء على مهلها. ولهؤلاء يقول "تجرأ أن تعرف" لكن وأنت تفعل ذلك افعل بالتدريج وكن مطيعاً، لا تحاول هز المجتمع بأكمله، أو أن تحطم محيطك كما تعرفه ويعرف نفسه.
تقدّم كانط في مقالته الشهيرة "ما هو التنوير؟"، خطوة على معاصره المؤثر فيه الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو. يقال إنه فوّت موعد نزهته اليومية المقدس أياماً، وأقلق جيرانه الذين كانوا يضبطون ساعاتهم على عاداته، ويقال إنه برّر ذلك بأنه تسلّم طرداً من روسو فيه كتاب جديد لصاحب "هواجس المتنزه المنفرد" (الكتاب صدرت ترجمته العربية قبل أيام عن "المنظمة العربية للترجمة")، وما كان ليخرج قبل أن يتمّه.
أغلب الظن أن هذه القصة ليست صحيحة، ولكنها قصة جيدة عن الأثر الذي تركه صاحب "العقد الاجتماعي" على الفيلسوف الألماني. رغم أن الأول لا يشبه كانط في بحثه عن منطقة وسطى، إنه فيلسوف المتناقضات، يشارك روسو في التنوير ثم ينقلب ضده، يعرّفه جيداً ثم يرفضه براديكالية وفظاظة، أوشك معها أن يقول إن الحداثة خطأ كبير، وأن علينا البحث عن علاج منها.
في خطابه الأول الذي تناول فيه الفنون والعلوم، أعلن روسو أغرب الآراء حول الفن الذي اعتبر أن له وظيفة تنكرية، إذ نستعمله لإخفاء اضطهادنا، يجعلنا ننسى أننا لسنا أحراراً، بل أسوأ من ذلك، إنه يجعلنا نحب عبوديتنا.
الفن والعلوم كجزء من الرفاهية، في رأي روسو، تعزز اللامساواة والتمزق من حيث تخلق حاجات جديدة، فأي نِير يمكن أن تشد إليه إنساناً لا يحتاج شيئاً. إنها ثغرة جديدة هشاشة جديدة تفرض علينا، بهذا المعنى يكون التنوير والحداثة انحطاطا وفساداً وليس تطوراً.
يقول روسو: "ما نتيجة أن تولد في زماننا..وأي فضيلة ستأتي من أن تكون غنياً بأي ثمن؟ فلاسفة السياسية القدماء كانوا يتحدثون عن القيم والأخلاق، الآن يتحدثون فقط عن الاقتصاد والمال". بدأ روسو بالحديث عن الفنون والعلوم لينتقل إلى الاستهلاك ثم اللامساواة الاقتصادية، ثم ذهب إلى هجاء التعليم في نصه المتطرف "خطاب في العلوم والفنون"، باعتباره أحد أسس اللامساواة في المجتمعات.
ينضم روسو كواحد من أعداء التنوير في زمانه إلى جانب الأرستقراطيين والكنيسة، لكنه ليس محافظاً مثلهم، ولا يرغب في المحافظة على "الوضع القائم" بل كان يريد تنويراً أكثر راديكالية، فهو يرى إن دعاة التنوير الذي يزعمون محاولة خلخلة واقع مجتمعاتهم، هم في الحقيقة يعزّزون المكونات الأساسية لهذا الواقع.
المفاجأة الكبرى تأتي في القسم الأخير من خطاب روسو، فبعد الخوض في فساد الحداثة وهجاء التنوير والتشخيص المرير لما تعتبره الثقافة الأوروبية حسناتها، من علوم وفنون، يعلن إن العلاج هو في إعطاء أصحاب السلطة المثقفين المزيد منها.
قد يبدو الأمر في البداية مستهجناً، لكن روسو كان يعرف أن ليس من عودة إلى الوراء، وإن كان هناك من فرصة فهي في دخول المثقف إلى قاعات السياسة، علّه يستطيع فعل شيء حيال مرض التنوير يحوّله من نقمة، كما هو في عيني روسو، إلى نعمة.
اقرأ أيضاً: جنيالوجيا الأخلاق وورثة الأخلاق