جامع الحاكم.. حاضرُ من أنقذوا ماضيه

11 مارس 2015
يتميّز الجامع بباحته الواسعة التي رمّمت أكثر من مرّة(Getty)
+ الخط -


"سيُبْعَثُ المَهديّ المُنتظر من أحدِ الآبارِ السّبعة داخل مسجد الحاكم بأمر الله".
يشيع هذا المعتقد عن طائفة "البُهرة"، ذات الامتداد الشيعي الإسماعيلي، المتمركزة في منطقة الجمالية في القاهرة منذ ستينيات القرن الماضي. فللجامع الفاطمي قداسةٌ كبيرة لدى هذه الطائفة القادمة من الهند، وهي التي استنقذته من براثن الإهمال عبر تاريخ طويل، وبعد أن تعرّضت قيمته الأثرية والمعمارية الفريدة في خطر النسيان والإسقاط من التاريخ الحضاري للإنسانية.
استغرق إنشاء الجامع أربعة عشر عاماً، منذ بدأه الخليفة الفاطميّ "العزيز بالله"، وأتمّه ابنه "الحاكم بأمر الله" منتهياً منه سنة 1013 ميلادية.

كان يُطلق عليه في أوّل الأمر "جامع الخطبة"، ثم بات يعرف بـ "الجامع الأنور". وهو يعدّ ثاني أكبر المساجد المصرية مساحةً. وحين افتتح للصلاة أوّل مرّة في أوّل جمعة من شهر رمضان سنة 403 هجرية، رآه الناس خارج أسوار المدينة تحفة معمارية فريدة، حظيت باهتمام الناس وعناية الدولة الفاطمية، ثم عناية الدول المتلاحقة لزمن طويل.
كان مكانه في أوّل الأمر منفرداً خارج سور القاهرة الفاطمية، قبل أن تحدث تعديلات على السور في عهد الخليفة المستنصر (1036 -1094م) ليكون جدار الجامع الخارجي متمّماً للسور الشمالي، متوسّطاً بابي النصر والفتوح.
ومع أوامر "الحاكم بأمر الله" بإقرار التدريس فيه، والسماح لعلماء الأزهر بالتدريس والطلاب بالالتحاق به، أصبح الجامعةَ الرابعة في مصر، بعد جوامع عمرو بن العاص، وأحمد بن طولون، والأزهر. وظلّ دهراً من الزمان مركزاً ثقافياً وتعليمياً مهمّاً.

عبر التاريخ
دخلت على عمارة المسجد الأصلية العديد من التعديلات اللاحقة عبر التاريخ، حتى تغيّرت أبعاده شيئاً ما. أشهر تلك التعديلات قيام الخليفة المستنصر بإدخال الجامع داخل سور القاهرة، إضافة إلى ترميم أجزاء المئذنة الشمالية لتتّسق مع النمط المعماري للسور الجديد.
في حين قام الظاهر بيبرس المملوكي (1260-1277ميلادية) بتجديد أجزاء من الجامع وإصلاح المئذنة، وبناء قاعدة للمئذنة لحمايتها، بعد أن أصابها الضرر، من جراء زلزال قويّ ضرب القاهرة. كما قام الناصر قلاوون في فترة حكمه الثانية (1299-1341ميلادية) بعمليات ترميم، كان من بينها تغطية أرضية الجامع بالرخام لأوّل مرّة.
وكانت أهمّ أعمال الإصلاح والتجديد، بعد جلاء الفرنسيين عن مصر، ما قام به السيد عمر مكرم، نقيب الأشراف، سنة 1808، حين جدّد أربعة أروقة بالإيوان الشرقي وجعلها مسجداً للصلاة، وكسا القبلة بالرخام، ووضع بجوارها منبراً. وفي سنة 1927 قامت لجنة حفظ الآثار العربية بإصلاح أكتاف النصف الغربي من الرواق الجنوبي وعقوده، وأعادت بناء المجاز القاطع لإيوان القبلة، كما نزعت كسوة الرخام التي وضعها السيد عمر مكرم على القبلة، فظهر المحراب القديم.


 رسم لمسجد الحاكم بين 1811 و1847، موجود حالياً في متحف اللوفر بباريس (Getty)             

أسوأ ما تعرّض له الجامع التاريخي كان مع قدوم نابليون بونابرت إلى مصر، حين احتلت حامية عسكرية فرنسية ساحته وأروقته، واتّخذتها مقرّاً لها، ومركزاً لجنودها، وحظيرة لخيولها، كما تحوّلت مئذنتاه إلى برجي مراقبة. وبعد رحيل الفرنسيين ظلّ الإهمال مستمرّاً، فأقامت به مجموعة من التجّار الوافدين من بلاد الشام، وجعلوه مركزاً لصناعة الزجاج ونسج الحرير.
كان أفضل استخدام للجامع في فترات الإهمال حين تحوّل إلى مخزن ومتحف إسلامي، للحفاظ على التراث العربي الإسلامي من اللصوص في نهاية القرن الثامن عشر، وأطلق عليه آنذاك: "دار الآثار العربية". وفيما بعد نقلت آثاره ومقتنياته إلى مبنى جديد ومجهّز في منطقة باب الخلق، هو ما يسمّى حالياً: "متحف الفنّ الإسلامي".
بعد سنوات قليلة، تمّ بناء مدرسة صغيرة في أحد جوانب الصحن، هي مدرسة "السلحدار الابتدائية"، فيما تحوّلت أروقته المهملة إلى مخازن لتجّار المنطقة المحيطة بالجامع.
ولفترة قريبة كانت بعض تجويفات الجدران الخارجية الخلفية للمسجد، ذات الزخارف والنقوش والخطوط الإسلامية العريقة، تستخدم مقهىً صغيراً يقوم فيها البائعون بتجهيز المشروبات الساخنة والشيشة للمشاة والتجّار المحيطين بالمنطقة.
وفي عهد الرئيس المصري، أنور السادات، تقدّمت طائفة "البهرة" للحكومة بطلب إعادة بناء الجامع وترميمه على أمل الانتفاع به والتمركز فيه، فوافقت الحكومة، وحظيت الطائفة بوجود دائمٍ ومبرّر في منطقة الجمالية بأسرها، حيث يتردّد أتباعها بشكل منتظم على المسجد، يقومون فيه بصيانة دورية، ويمارسون شعائرهم الخاصّة من دون حرج، كما أنّ بعضهم يسكنون بشكل دائم في الطابق الثاني لمبنى داخلي ملحق بالمسجد، تطلّ شرفاته على شارع المعزّ.

طراز فريد
استُخدم الآجُر في عملية التشييد، فيما بُنيت المئذنتان من الحجر. تبلغ مساحة المسجد الإجمالية حوالي ستة عشر ألفاً ومئتي متر مربّع، ويعدّ الصحن الداخلي المكسوّ بالرخام الأبيض أكبر الصحون الداخلية من بين مساجد القاهرة، وتبلغ مساحته حوالي خمسة آلاف وثلاثمئة وثلاثين متراً مربّعاً. تتوسّطه فسقيّة رخامية جميلة الشكل، فريدة المنظر، وفي ركن المسجد الجنوبي حوض صغير للوضوء.
أما الأروقة فهي أربعة، أكبرها "الشمالي". وتُغطي الأروقةَ سُقُف من الخشب، وتعلو الرواق الشمالي ثلاثُ قباب. يحوي المسجد محرابين، أحدهما قديم والآخر جديد، إضافة إلى المنبر الخشبي.
وكان للمسجد، وقت تأسيسه، تسعة مداخل تحيط بجوانبه الأربعة، وإن كان لا يبدو للعيان الآن سوى المدخل الرئيس المطلّ على شارع المعز.

مئذنتان عتيقتان
على الرغم من تعدّد الإصلاحات والترميمات، فإنّ عمارة المئذنتين، لم يمسسهما أي تغيير منذ أكثر من عشرة قرون. وهما مئذنتان فريدتان في شكلهما، لكلّ منهما قاعدةٌ مربّعة ضخمة على شكل هرم ناقص. وتتركّب كلّ قاعدة من مكعّبين يعلو أحدهما الآخر، الأسفل منهما يرجع إلى عصر الإنشاء الأوّل، أما العلويّ فيرجع إلى عصر الظاهر بيبرس. وتبرز فوق كلّ مكعّب علوي مئذنة. وقد نُقشت على جدار المئذنتين زخارف نباتية وهندسية دقيقة، إضافة إلى أشرطة كتابية بالخطّ الكوفي المزهر.
يوجد المدخل الرئيسي للجامع بين المئذنتين، فهو أوّل مدخل بارز في مساجد القاهرة. تبدو فكرته مأخوذة من جامع المهديّة بتونس، الذي يرجع تاريخه إلى أوائل القرن الرابع الهجري.
أما باب المسجد فهو باب خشبيّ فريد ذو مصراعين، يبلغ عرضه مئتين وعشرين سنتيمتراً، بينما يبلغ طوله حوالي ثلاثمئة وخمسة وعشرين سنتيمتراً، فيما يبلغ سمكه سبعة سنتيمترات ونصف. وتعلو الباب زخارف بأشكال نباتية ونقوش منحوتة وبارزة مكتوبة بالخطّ الكوفي، تحمل اسم الخليفة وألقابه.

شارع المعزّ الفاطمي
لا يعدّ جامع "الحاكم بأمر الله" الأثرَ الوحيد في "شارع المعز لدين الله" بمنطقة الأزهر، فهو أشهر الشوارع الأثرية في القاهرة على الإطلاق. يمتدّ الشارع من باب الفتوح بالسور الشمالي للقاهرة الفاطمية إلى أن يصل إلى "باب زويلة" في السور الجنوبي. يعود تاريخ إنشائه إلى "جوهر الصقلي"، ويحتوي على أكثر من مائتي أثر إسلامي فاطمي وأيّوبي ومملوكي وعثماني.
من آثار الشارع التي ذكرها "المقريزي" إضافة لجامع الحاكم: "وكالة قايتباي، بيت السحيمي، جامع سليمان أغا السلحداري، وجامع الأقمر، وسبيل عبد الرحمن كتخدا، قصر الأمير بشتاك، وجامع السلطان قلاوون، ومدرسة الظاهر برقوق، وتربة الصالح أيوب، والمدرسة الصالحية، والمدرسة الكاملية، ومدرسة الناصر محمد بن قلاوون، جامع الأشرف برسباي، ومدرسة وسبيل السلطان الغوري، وحمام المؤيد، جامع المؤيد".
وكانت المدينة قد فقدت أكثر من أربعين في المائة من نسقها المعماري وملامحها الأثرية، بفعل الإهمال، ومنذ تمّ تسجيل القاهرة التاريخية على قائمة التراث العالمي باليونسكو عام 1979 بدأ العمل على ترميم الشارع وآثاره على عدّة مراحل، ثم كان افتتاح الشارع بعد رصفه بالأحجار القديمة‏،‏ ليصبح أوّل شارع أثريّ مخصّص للمشاة، في فبراير/شباط 2008.
دلالات
المساهمون