ثورة لاستعادة الدولة
... وغياب الدولة في ما أسمته دعاية النظام "سورية الحديثة" التي يسميها السوريون ساخرين "سورية الحبيسة" أنتجه تغييبها المقصود، الذي عمل النظام الأسدي له بدقة ومثابرة، ونفذه بتصميم وإصرار، وأنجزه بأكثر الصور إضرارا بالمواطن وخدمة لأجهزة قمعه التي يسمونها كذبا "أجهزة أمن".
وكان حزب البعث قد اعتبر نفسه منذ تأسيسه حزباً "انقلابياً". لذلك، تبنى خطة نافس بها الحزب الشيوعي استهدفت "تحطيم الدولة القديمة"، الذي سرعان ما تحول إلى تحطيم الدولة بإطلاق، إما بوضعها تحت جناحه كتكوين جزئي يلغي استيلاؤه عليها طابعها العام والمجرد والشامل الذي لا تبقى دولة بدونه، أو برفض الخضوع لها، بحجة أنها "دولة طبقية أو رجعية"، وتقويض طابعها الوطني وآليات عملها العامة، الناجمة عن هويتها كتكوين أعلى ينفرد بالتعبير عن وحدة المجتمع، وبتدبر مصالحه العليا التي تتخطى أية مصالح جزئية، خاصة كانت أو حزبية. يقال في المنطق السياسي بضرورة خضوع الجزء للكل لا العكس، وباستحالة أن يحتوي الجزء هوية الكل في ذاته، أو أن يحل محله، لأن ذلك يقوض السياسة كشأن عام تنفرد الدولة بإدارته، كي تبقى دولة، في حين يفضي انفراد حزب أو تكوين جزئي بالشأن العام إلى خراب عام، كما يستحيل أن يشارك حزب الدولة، في صفاتها العامة والشاملة والمجردة، التي تجعلها مسؤولة عن مواطنيها، وتؤهلها للانفراد بالتعبير عن كلية مصالحهم وإرادتهم العامة.
ألغى العسكر البعثي الدولة، عبر إلغاء سيادة القانون واستقلالية القضاء وحرية الإعلام، ونشر قدرا من الإفساد دمر حاملها: المجتمع المدني، وقدراً من القمع، قوضه وأخرجه من المجال السياسي، ورده إلى عصبيات دنيا متصارعة، أوصلته إلى حال تؤكد صحة ما يقال حول استحالة وجود مجتمع بلا دولة، ودولة من دون مجتمع مواطنين أحرار ومنتجين. عندما يقوض المجتمع المدني، وتتغول السلطة، وتبني مجتمعاً خاصاً بها يتكون "شعبه" من منتسبي أجهزتها الأمنية وعسكرها، ومزق طوائف ترفض غيرها وتتسلط عليه، بحجة الخوف على خصوصياتها، كتكوينات ما قبل مجتمعية، والخشية من أن يهددها تطور مجتمعها بالتلاشي والزوال، وأن تذوب ولاءاتها الدنيا في الولاء الوطني الجامع، المرتبطة بانتماءات تتخطى الطائفية وبالتزامات عليا ومشتركة حاربها عسكر البعث بلا هوادة.
ألغى النظام الأسدي الدولة ومؤسساتها الشرعية والقانونية، كي لا يستقوي المواطن بها، ويفيد من طابعها العام وضماناتها القانونية في علاقاته مع بقية مواطنيه، ويتخطى محاذير سياسية واجتماعية وثقافية، اعتبرتها السلطة خطوطاً حمراء، لاحقت وعاقبت من اقترب منها أو انتهكها.
حين قام الشعب السوري بالثورة، كانت السلطة قد ألغت الدولة، وحلت محلها منذ زمن طويل. لذلك، كان من المحال أن يتطلع الثوار إلى تدميرها، كما اتهمهم النظام الذي لم يبق منها حجراً فوق حجر سياسياً، وأكمل تدميرها عسكرياً بعد الثورة التي طالبته بإصلاح الحياة العامة واستعادة الدولة. في المقابل، كان هدف الثورة الرئيسي إقامة دولة لا تكون ملحقا بالسلطة وذراعاً من أذرعتها، كما هي حال السلطة الأسدية، بل تكون دولة مؤسسات تلتزم بالقانون وتضمن الحرية وتنميها، طالب بها في مظاهراته السلمية، وهتف باسمها، وصاغ لها أجمل الشعارات، وأعلن أن حريته لن تكتمل إلا بإقامتها، وبوضع حد للسلطة التي أبطلتها، وأسرفت في التفريط بحقوق وطنها ومواطنيها.
لا مبالغة في القول إن الدولة هي أكثر ما افتقده الشعب السوري خلال سنوات محنته المديدة، وإن ثورته قامت لاستعادتها، وكيف لا يستعيدها إن كان النظام الديمقراطي يرتبط بدولة لجميع مواطنيها، من دون تمييز أو إقصاء، أساسها الحرية: هدف ثورته الوحيد. ومن يدقق في مجريات الحدث السوري، يجد أنه أعاد إنتاج المجتمع الوطني في صورة مغايرة لتلك التي فرضتها الأسدية عليه، وأن حراكه كان مدنياً بصورة عامة، قبل أن يبتلي بالمتطرفين والإرهابيين، في حين بقيت الدولة حلمه ومناط أمله، لاعتقاده أنها ستحميه من التسلط والاستبداد وحكم الأهواء.
أدى تغييب الدولة إلى إخضاع الشعب لعنف سلطة طغيانية، هددت وجوده، وقمعته في كل يوم من أيام حكمها البغيض. وستؤدي استعادتها إلى إحياء أجواء التعايش بين أبنائه الذين تمسكوا به، على الرغم من كل شيء، وضحوا بحياتهم من أجل دولة ينعمون فيها بالحرية والعدالة والمساواة.