ثورة المقاعد الخلفية

06 اغسطس 2014
مانا نيستاني / إيران
+ الخط -

كان مثالاً حياً للتلميذ "البليد".. وجه ملطّخ، أظافر متّسخة، مريول مهترئ. ظلّ هدوءُه الملحوظ هو الاختلاف الوحيد بينه وبين زملائه في البلادة، "جلساء المقاعد الخلفية". فبينما كانوا يميلون إلى الصخب والمشاغبة، كان انعدام نباهته ووجهه الملطخ إثميه الوحيدين.

أثناء حصة التربية الدينية تغيّبت مِس فاطمة لدقائق تاركة لأحد التلاميذ "الشطار" مهمة "الوقوف على الفصل"، ليتوعّد من يتلفظ بكلمة واحدة، بكتابة اسمه على السبورة.

عادت لتجد اسم شريف وحيداً بالأبيض على السبورة السوداء، وحينما اعترض على بسط يده لتلقّي ضربات عصاها، احتقن وجهها بالغضب وأجبرته على خلع حذائه المهترئ.

يسيرُ شريف بين صفي التلاميذ حاملاً على كتفيه فردتي حذائه المفغورتين هامساً: "أنا حمار".. صوت مِس فاطمة المهدِّد يطالبه بترديد العبارة عالياً، بينما يعلو تعبير الرضا وجهها الممتلئ.
"أنا حماااااار".

هذا ليس مشهداً متخيلاً، بل هو بعض ما تختزنه ذاكرتي من أيام المدرسة السعيدة، والآن دعوني أحكي لكم عن باولو.

طبعاً، لم يكن باولو يعرف شريف؛ لكنه عرف وجهه الملطّخ وانكسارة الفقر في عينيه. عاش مثله في إحدى دول العالم الثالث آنذاك - البرازيل -  وتلقَّى، مثله، تعليماً فاسداً محكوماً بما تقتضيه اعتبارات الطبقية والدكتاتورية وغيرها من أمراض المجتمعات النامية؛ لكنه استطاع أن يجمِّع كل ما تلقَّاه على أيدي أقرانه ومعلميه من تكريسٍ للقهر والانبطاح في نظرية ذكية محبوكة بصقها في وجه العالم لتنجح في تغيير نصفه على الأقل، بينما تقف كدليل إدانة ضد النصف الآخر.

في كتابيه "الثورة" و"تربية المقهورين"، يتحدث باولو عما بات يُعرف لدى اختصاصيي التربية بـ"ثقافة الفصل" أو "المنهج الخفي" أو، بعبارة أخرى، ذلك الشعور العام بالكبت والسأم الذي كان يسيطر علينا بين جدران المدرسة، وكنا نحاول التغلب عليه بالشغب، أو التزويغ، أو تدبير المقالب ضد المعلمين، أو غيرها من الأشكال الخفية لمقاومة القمع والانبطاح التي اعتيد الاستشهاد بها للتأسف على شباب النموذج الأبوي المسيطر على ثقافتنا العربية منذ الأزل.

وهو ما يمثل أيضاً مؤشراً أولياً على إمكانية كسر تلك التراتبية الهرمية لثنائية القمع/المقاومة التي تبدأ من قمع النظام السياسي المستبد وتتدرّج في رحلتها الطويلة لتمر بمقاومة المعلم المقهور لقمع مديره بقمع الطلاب؛ لكنها لا تنتهي في جميع الأحوال بتدمير الطلاب لأنفسهم ذاتياً عبر الانصياع لثقافة القهر وتوجيه طاقاتهم الإبداعية نحو اقتلاع الخشب القديم لمقاعد الدراسة أو تشويه جدران المدرسة.

من المؤكد أن شريف قد كبُر وأصبح شاباً في عمر المسؤولية، وربما هو الآن مجند أمن مركزي يقضي ساعات خدمته الطويلة في قمع المتظاهرين متسلحاً بعصا أطول من تلك التي كانت لمِس فاطمة؛ أو حارس عقار بسيط يحترف "تقليب الرزق" و"المشي بجانب الحائط"؛ أو أحد القابعين خلف قضبان سجون مصر العامرة، المنهمكين في عدِّ أخطاء الماضي لتلافي فشل الثورة القادمة.

أنا هنا لا أدعوكم إلى التأسّي على شريف ولا إلى قراءة باولو فريري، لكنني فقط ألوِّح في وجوهكم بمفتاح ربيعٍ أثق أنه قادم.

المساهمون