ثورة المجانين

05 يناير 2016
+ الخط -
من الآن فصاعداً، يتعيّن علينا، نحن العرب أدناه، أن نضع تعريفاً جديداً للتمييز بين العقلاء والمجانين، استناداً إلى حادثة اغتيال الشاب الفلسطيني (المختل عقلياً) برصاص قناصة الجيش المصري الأشاوس على حدود رفح قبل أيام.
يقوم التعريف على معادلةٍ سهلة للغاية، في وسعنا تعليمها للأطفال العرب، منذ نعومة أظفارهم، بعد أن علمنا إياها حكامنا منذ خشونة "أظلافهم"، وتقوم على المبدأ الآتي: "المجانين وحدهم من يجازفون باختراق الحدود العربية".
أما العقلاء منا، والحكماء، وأصحاب العقول النيّرة، فعليهم أن يجعلوا من الخط الحدودي العربي خط نهاية لحدود حياتهم، وأحلامهم البائدة، وعروبتهم وقوميتهم وأديانهم ومعتقداتهم كلها.
فعلى هذه الخطوط الحدودية النحيلة، قضى مهووسون كثرٌ، بدءاً بـ"رجال الشمس" الذين لم يقرعوا الخزان، إلى "أطفال الليل" الذين قرعوا الخزانات العربية كلها، من دون أن يفتح لهم أحد باباً حدودياً واحداً يقيهم صقيع الصحراء.
وإذا كان العرب قد أرهقوا العالم، احتجاجاً على الجدار الصهيوني العازل، فإنهم يُصابون بالخرس عند الجُدُر الحدودية العربية، العازلة للصوت والأنين والفقر والجوع والبطالة وأحلام الوحدة. ولا أبالغ إذا قلت إنها غدت أزيد من جدران عنصرية للفصل بين الثورة والثروة، وبين الفقر والغنى، منذ غدا "القطر" أوسع من المحيط، والقبو أرحب من الفضاء.
السؤال هنا: هل تعرّى (مجنون رفح)، قبل أن يجازف باختراق الحدود العربية، لأنه مختل عقلياً، أم لأنه "حكيم" أدرك، بعقله الراجح، مبلغ العري العربي وانكشافه العسكري أمام جحافل الأساطيل الغازية من كل حدب وصوب، تلك المسموح لها، وحدها، بانتهاك الحدود العربية، وتحطيمها إن شاءت، فأراد، والحال تلك، أن يبادل "العري" بالعري، والانكشاف بالانكشاف، ليتماهى مع الجنون العربي المعاصر الذي اختلطت فيه لحية الحاكم بلحية "الداعش"، وامتزج فيه الدم بالماء، وتحولت ثورات ربيعه إلى صفقاتٍ ومؤامراتٍ ممتدة من طهران إلى القاهرة وموسكو وواشنطن.
هو كان مجنوناً لا حكيماً، حين لم يسعفه عقله في التفريق بين جدار شارون وجدار السيسي، فدفع حياته ثمناً لهذا الخطأ الكارثيّ، بعد أن كان قد دفع عقله ثمناً لحصار غزة الذي يتسابق لفرضه الأخ قبل العدو. وكان يعتقد (ويا لسوء اعتقاده)، أن أقصى عقوبة ستلحق به لا تتعّدى "التوقيف الإداري" شهراً أو شهرين، كما يحدث لدى اختراق جدار إسرائيل العازل، غير أنه حين أدرك الفرق، كان الأوان قد مضى بروحه وعقله معاً.
على الخطوط الحدودية العربية، تقام الولائم والمآتم معاً، فهناك ما تزال الأنظمة العربية تقيم الاحتفالات والمآدب، كلما أنجزت خندقاً فاصلاً جديداً لمنع اختراق "المجانين" له، فيما يقيم ذوو "المجانين" سرادق العزاء، حزناً على "مجنون" آخر، جازف باختراقها، وهناك ما يزال "الحكماء" يحتفلون بذكرى تقسيمات "سايكس وبيكو"، وينحرون الإبل والشياه والدجاج والذباب، تبرّكاً بهذه الحدود المنيعة على الاختراق العربي، والمطّاطة أمام أي اختراق أجنبي، فيما يسقط "المجانين" تباعاً، لأنهم ما زالوا يعتقدون أن الوحدة العربية قائمة، لا تفرقها حدود، ولا تزعزها اتفاقيات ماكرة.
وحتى يحين أوان الحسم بين "الحكماء" و"المجانين"، وبين "العقلاء" و"المختلين"، يبدو أننا سنعيش أزيد من حوادث القنص والقتل الرخيص، من جنودٍ لا عقول لهم، إلا ما زرعته الأنظمة العربية من أكوام قش في جماجمهم، فأصبحوا لا يرون عدواً لحدودهم غير العربيّ وحده.
وسيمضي وقت طويل، قبل أن نتحول جميعاً إلى "مجانين"، فنستعيد أحلام الوحدة والحرية، ونخترق الحدود العربية على نحو جماعي، عراةً لا يسترنا غير تصميمنا على وأد هذه الحدود التي تحمي الأنظمة وحدها، لا الشعوب، عندها فقط سيكون النصر حليف "ثورة المجانين".
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.