ثورة الشباب السوري

05 نوفمبر 2014
الإبداع يُخلق أصلاً في حيّز يمتلك الشباب كلّ حدوده(Getty)
+ الخط -

منذ سيطرة "عسكر البعث" على زمام السلطة ومقاليدها في دمشق، بعد انقلاب مارس/ آذار والتي يسميها النظام السوري ثورة الثامن من آذار 1963، بدأ السوريون عموماً والشباب منهم خاصةً بفقد علاقته الزمانيّة والمكانيّة بالفضاء العام، فالعسكر عملوا على تطويق البشر وحرمانهم من أبسط حرياتهم الشخصية المتمثّلة بالتجمّع في أفق جغرافي واحد يستطيعون فيه التعبير عن ذواتهم.

تكرّس القمع وأصبح سياسةً ممنهجةً بوصول حافظ الأسد إلى الحكم، واعتلائه هرم السلطة في الدولة البعثية، التي حوّلها لاحقاً لحكم "أوتوقراطي" مطلق، وكان يدرك خطر العلاقة الوطيدة بين الشباب والفضاءات العامة المتعددة؛ لذا عمدت السلطة في عهده لاحتلال الأماكن العامة على اختلافها ومنعت الشباب من الاجتماع في أي موقع إلاّ بمراقبته، بل زادت على ذلك فقامت السلطة بصناعة فضاءات خاصة للشباب على هواها ومزاجها، وقامت بتدجينها، فمثلاً كان السوري يدخل أولى مراحل الدراسة ليجد نفسه منضوياً في أول المنظمات السلطويّة، "طلائع البعث"، التي يظلّ فيها إلى أن يدخل المرحلة المتوسطة، فيصبح عضواً في "شبيبة الثورة". ويبقى التدجين مستمراً، فلكلّ مرحلة عمرية فضاءها الخاص في الفلسفة البعثية الأسديّة، فحين وصول الفرد السوريّ إلى المرحلة الأخطر والتي يتكّون فيها وعيه الخاص، أي مرحلة الشباب، يدخل الشاب السوريّ الجامعة لينتقل إلى مؤسسة طلابية من مبتكرات البعث تُدعى "الاتحاد الوطني لطلبة سوريّة"، ذات الصيت السيئ وصاحبة اليد الطُّولَى في قمع الاحتجاجات السلميّة التي شهدتها الجامعات السوريّة مع انطلاقة الثورة السورية.

عندما اندلعت الثورة السوريّة التي كان الشباب عمادها الرئيسي وبيضة القبّان فيها، ثاروا لأسباب مطلبيّةٍ واجتماعية وسياسية شتى؛ لكنّهم ثاروا أيضاً من أجل استعادة فضائهم الخاص ومن أجل استرداد حيّزهم الذي قامت السلطة باستعماره وتجييره لمصلحتها خلال خمسة عقود، لذا كان من الطبيعي أن تتحول ساحات التظاهر، التي صدح الشباب فيها بأعلى أصواتهم ضد القهر والظلم والاستبداد، إلى ما يشبه " الفضاء المنشود" الذي طالما حلموا بامتلاكه بلا أعين المخبرين وبعيداً عن النشاطات المفروضة مسبقاً من السلطات الأمنية، فلم تكن تلك الساحات مجرد مكان للالتقاء والخروج ضد الطغمة الحاكمة، بل كانت أيضاً فسحة للتعبير عن الذات. ومهمٌ تذكّر تلك الأمواج البشرية التي شكلّها الشبان السوريون وهم يتراقصون طرباً على أنغام "القواشيش"، (نسبة لمغنيّ الثورة إبراهيم القاشوش)، الذين كانت أصواتهم تُسكر العقول وتسحر الألباب بهتافها للثورة في ساحات الحريّة التي عرفتها المدن السورية. وبتزايد التظاهرات واتساع رقعة الثورة، صارت العلاقة التي تجمع الشاب بالمكان وطيدةً متجذّرة، وبدأت الفضاءات الخاصة بهم بالتوالد والتشكّل. فتزيين الشوارع بأعلام الثورة كان إحدى تجليّاتها، وكتابة شعارات الثورة، من حرية وكرامة ومساواة، على حيطان المدن الرئيسية بدل العبارات التي تمجّد القائد الأوحد وتعدّد مناقبه وخصاله اللامتناهية، كانت بمثابة انتزاع الفضاء من يد السلطة وإيذاناً بولادة عهد جديد يمتلك الشباب فيه أدواتهم المكانيّة والزمانية.

مع مرور الوقت وانتقال الثورة من طورها السلمي إلى طورها العسكري، وخروج مناطق بكاملها عن سيطرة النظام، كانت الفرصة مواتية أمام الشباب لصناعة الفضاء الخاص بهم. ومثلاً ممّا كان لافتاً على صعيد الفضاء المكاني، وجود مقهىً يُدعى "الآبل" في محافظة الرقة كان يجتمع فيه نشطاء المحافظة على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم، بل كان يجمع الشباب السوري الثائر الذي وجد في الرقة ملاذاً آمناً بعيداً عن سطوة الأسد، قبل السيطرة عليها من حلفائه الدواعش.

في هذا المقهى كانت تتم المناقشات السياسية حول أوضاع البلاد والثورة ومستقبلها والتحديّات التي تواجهها، وكان يتم التنسيق فيه لمختلف الفعاليّات والنشاطات المشتركة التي تجمع الشباب، لكّن أبرز ما ميّزه كونه المكان التي كانت تخرج منه التظاهرات التي تندّد بتجاوزات الفصائل العسكرية ضد المدنيين ونشطاء الثورة، وأنّه كان قاعدة لانطلاق التظاهرات التي خرجت ضد تنظيم داعش، الأمر الذي دفع أحد "المجاهدين" بأن يهدد الشباب بتفجير هذا المكان بمَن فيه، لأنّه يشكّل قاعدةً لـ"أعداء" الإسلام والدين.

هذه التجربة الشبابية البسيطة والعفوية مع العلاقة بالفضاء العام، كانت شاهداً حيّاً على قدرة الشباب على الإبداع والتميّز حينما يمتلك الفضاء العام الذي يخصه ويبتغيه، بل إنّ الأعمال الخلاّقة والإبداع تُخلَق أصلاً في حيّز يمتلك الشباب كلّ حدوده وامتداداته، ويشعر بالانتماء الطوعي له، ومن شعور كهذا يؤصل لشعور المواطنة بمعناه الأوسع.

صياغة الفضاء العام هي جزءٌ من مهمات الشباب التي يجب أن يأخذوها على عاتقهم في مواجهة السلطة، أي سلطة، وأن تكون أولى أولوياتهم وجزءاً لا يتجزأ من غاياتهم وأهدافهم، لكنّها لا تتمُّ ولا تصبح مهمة ناجزة إلاّ بالخلاص من جميع أشكال الاستبداد ومخلّفاته وتوابعه.

المساهمون