11 نوفمبر 2024
ثورات عربية واحدة وجيوش مختلفة
وضعت الانتفاضات والثورات التي شهدتها البلدان العربية، منذ عام 2011، الجيوش أمام اختباراتٍ صعبة، لم تخلُ من الدلالات والعبر. والواضح أنه لا يوجد نموذج موحّد لكيفية تعامل هذه الجيوش مع تلك الثورات. وهذا لا يعود إلى طبيعة الجيوش، تاريخ انبعاثها، عقيدتها، علاقتها بالشأن السياسي، وطبيعة الانتماءات الاجتماعية لمنتسبيها (مناطق حضرية، ريف، طبقات ميسورة، طبقات فقيرة...) والعلاقات التي تربطه بالخارج، على غرار التخرج من كليات أجنبية والتدريبات فحسب، ولكن الأمر يعود أيضا إلى طبيعة تلك الحراكات وأساليب تعبيراتها (سلمية، عنيفة.. إلخ)، والقوى الاجتماعية المنضوية تحتها.
يبدو أن الجيش التونسي شكّل حالة فريدة، على الرغم من نقاط رمادية وملتبسة ما زالت عالقة، خصوصا بعد تصريحات لقائد الأركان، الجنرال رشيد عمار، زادت الأمور التباسا. ولكن في كل الحالات، تحاشى الجيش التونسي الصدام مع الثائرين، ولم يستعمل ضدهم القوة، إلا في حالات محدودة، بل حاول، قدر الإمكان، حماية المتظاهرين من قوات الشرطة التي صوبت نيرانها ضدهم، وأردت مئاتٍ منهم قتلى. هناك فرضياتٌ عديدةٌ تفسر ربما سلوك الجيش التونسي، منها ثأره من بن علي الذي عمل على إذلاله، وهو الذي نكّل ببعض قياداته في محاكماتٍ جائرةٍ بتهم الانضمام.. إلخ. والتقتير في تجهيزه، إلى حد لا يطاق، في مقابل إغدافه المزايا المادية والرمزية لمنتسبي "الداخلية"، حتى تحولت البنت المدللة للنظام، غير أن العامل المهم هو طبيعة عقيدته وتاريخه، فقد كان بورقيبة مناهضا للأنظمة العسكرية، محبذا أن يكون "مستبدّا مدنيا".
وقف الجيش على "الحياد الإيجابي"، وربما حمى المتظاهرين، كما ذكرت السطور السابقة.
وفي كل الحالات، لم يكن له أي تدخل على الخيارات الأساسية، ومختلف السيناريوهات المتعلقة بمستقبل البلاد بعد هروب بن علي، وآثر تركها للسياسيين، مكتفيا بحماية البلاد، والمنشآت الحيوية، في ظل تفكك الأجهزة الأمنية والانفلات الكبير آنذاك، فعمل، فيما بعد، على حماية المسار الانتخابي، خصوصا في ظل الاغتيالات التي عرفتها البلاد، وصعود موجات الإرهاب.
بجوار هذه التجربة، سلكت جيوش عربية أخرى، كما في ليبيا وسورية، سلوكا مخالفا تقريبا، فقد اصطفت وراء الأنظمة التي وظّفتها في قمع تلك الانتفاضات والمظاهرات. وكان ذلك منتظرا نوعا ما، فهي أنظمة عسكرية، وصلت إلى السلطة عبر انقلاباتٍ كان بعضها دمويا، علاوة على أن هذين النظامين يزعمان أنهما ينتميان إلى عقيدة قومية، ما زالت لم تتخلص من ذلك العشق المرضي للبزّة العسكرية عنوانا للقوة. وأجهضت الجيوش، في هذه الحالات، ثورات الشعوب، وكانت سيف الأنظمة الذي سلط عليها، فنكلت بها أشد تنكيلا. لا تشكل الجيوش هذه حقيقةً جيشا بالمعنى الحديث للكلمة، إنما هي أقرب إلى مليشيات واسعة، تدفع لها الأنظمة رواتب مقابل حمايتها، وهي أيضا مركبٌ غريبٌ للمصالح والولاءات العائلية والزبونية.
وليس من الغريب أن يكون سلوك الجيش في هذه البلدان على هذا النحو، وهي التي شهدت أعدادا قياسية من الانقلابات. ولم تنج هذه الأنظمة ذاتها من هذه الانقلابات إلا من خلال ما قامت به ضمن ترتيباتٍ قاسيةٍ، داخل المراكز القيادية والمخابرات والأمن العسكري، من أجل تثبيت موالين لها على حساب الكفاءة والنزاهة والوطنية. ولذلك تفتقد هذه الجيوش إلى عقيدة وطنية في مقابل قيام عقيدة على الولاء للشخص (الزعيم القائد، العشيرة، القبيلة).. والحفاظ على المصالح، حتى لو كان ذلك على حساب الوطن والمواطنين. كانت الحالتان، اليمنية والسورية، وحتى الليبية، النموذج البيّن لاستحواذ الأنظمة على الجيوش، وتحويلها إلى أداة قمع، تتسلط على شعوبها عند الحاجة. ولذلك حاربت هذه الجيوش شعوبها بكل ضراوة، عندما ثارت.
يقدّم الجيش الجزائري نموذجا آخر، وهو الذي كان سبباً في الانقلاب على أول تجربة
ديموقراطية عرفتها الجزائر خلال أوائل التسعينيات من القرن الفارط، غير أن الموقف هذه المرة جاء مختلفا عما سبق، فقد وقف "مع الشعب"، على الرغم من التردد في بداية التحرّكات، ولكنه سرعان ما تبنّى تلك المطالب، ودفع الرئيس عبد العزيز بوتفليقة إلى الاستقالة لاحقا. كيف تحوّل الجيش الجزائري بكل هذه السرعة، وهو الذي كان حارس النظام وحاميه؟ هذا سؤال ما زال مطروحا في الشارع الجزائري، ولعل الفرضية التي يدفعها عديدون أن صراعا حادّا بين الجيش ودوائر عائلية حول المصالح وقواعد اللعبة هو الذي دفعه إلى اتخاد مواقف، خشية أن تنزلق الأمور إلى سياقات عنيفة في مناخ إقليمي يتميز بتصاعد مخاطر الإرهاب على الحدود كلها. ولذلك ما زال الجزائريون ينظرون إلى موقف الجيش الجزائري الذي لم يتورّط في العنف بحذرٍ كثير، خصوصا إذا استحضرنا تصدّر وجوه النظام السابق لقيادة المرحلة الانتقالية.
وأخيراً، يحضر الجيش السوداني، وهو الذي انقلب، هذه المرة، على الثورة، قبل أن ينقلب على النظام، من خلال سلوكٍ فيه كثير من الغدر بنضالات الشعب، وذلك ما يضع ثقافة المؤسسة العسكرية السودانية على مائدة التشريح، حيث ظل هذا الجيش يراكم ثقافة الانقلاب منذ أكثر من ستة عقود تقريبا، ولا يرى في الحراك المدني سوى جسر ييسر له الانقضاض لإعادة إنتاج البؤس السياسي بوجوهٍ مغايرة.
يبدو أن الجيش التونسي شكّل حالة فريدة، على الرغم من نقاط رمادية وملتبسة ما زالت عالقة، خصوصا بعد تصريحات لقائد الأركان، الجنرال رشيد عمار، زادت الأمور التباسا. ولكن في كل الحالات، تحاشى الجيش التونسي الصدام مع الثائرين، ولم يستعمل ضدهم القوة، إلا في حالات محدودة، بل حاول، قدر الإمكان، حماية المتظاهرين من قوات الشرطة التي صوبت نيرانها ضدهم، وأردت مئاتٍ منهم قتلى. هناك فرضياتٌ عديدةٌ تفسر ربما سلوك الجيش التونسي، منها ثأره من بن علي الذي عمل على إذلاله، وهو الذي نكّل ببعض قياداته في محاكماتٍ جائرةٍ بتهم الانضمام.. إلخ. والتقتير في تجهيزه، إلى حد لا يطاق، في مقابل إغدافه المزايا المادية والرمزية لمنتسبي "الداخلية"، حتى تحولت البنت المدللة للنظام، غير أن العامل المهم هو طبيعة عقيدته وتاريخه، فقد كان بورقيبة مناهضا للأنظمة العسكرية، محبذا أن يكون "مستبدّا مدنيا".
وقف الجيش على "الحياد الإيجابي"، وربما حمى المتظاهرين، كما ذكرت السطور السابقة.
بجوار هذه التجربة، سلكت جيوش عربية أخرى، كما في ليبيا وسورية، سلوكا مخالفا تقريبا، فقد اصطفت وراء الأنظمة التي وظّفتها في قمع تلك الانتفاضات والمظاهرات. وكان ذلك منتظرا نوعا ما، فهي أنظمة عسكرية، وصلت إلى السلطة عبر انقلاباتٍ كان بعضها دمويا، علاوة على أن هذين النظامين يزعمان أنهما ينتميان إلى عقيدة قومية، ما زالت لم تتخلص من ذلك العشق المرضي للبزّة العسكرية عنوانا للقوة. وأجهضت الجيوش، في هذه الحالات، ثورات الشعوب، وكانت سيف الأنظمة الذي سلط عليها، فنكلت بها أشد تنكيلا. لا تشكل الجيوش هذه حقيقةً جيشا بالمعنى الحديث للكلمة، إنما هي أقرب إلى مليشيات واسعة، تدفع لها الأنظمة رواتب مقابل حمايتها، وهي أيضا مركبٌ غريبٌ للمصالح والولاءات العائلية والزبونية.
وليس من الغريب أن يكون سلوك الجيش في هذه البلدان على هذا النحو، وهي التي شهدت أعدادا قياسية من الانقلابات. ولم تنج هذه الأنظمة ذاتها من هذه الانقلابات إلا من خلال ما قامت به ضمن ترتيباتٍ قاسيةٍ، داخل المراكز القيادية والمخابرات والأمن العسكري، من أجل تثبيت موالين لها على حساب الكفاءة والنزاهة والوطنية. ولذلك تفتقد هذه الجيوش إلى عقيدة وطنية في مقابل قيام عقيدة على الولاء للشخص (الزعيم القائد، العشيرة، القبيلة).. والحفاظ على المصالح، حتى لو كان ذلك على حساب الوطن والمواطنين. كانت الحالتان، اليمنية والسورية، وحتى الليبية، النموذج البيّن لاستحواذ الأنظمة على الجيوش، وتحويلها إلى أداة قمع، تتسلط على شعوبها عند الحاجة. ولذلك حاربت هذه الجيوش شعوبها بكل ضراوة، عندما ثارت.
يقدّم الجيش الجزائري نموذجا آخر، وهو الذي كان سبباً في الانقلاب على أول تجربة
وأخيراً، يحضر الجيش السوداني، وهو الذي انقلب، هذه المرة، على الثورة، قبل أن ينقلب على النظام، من خلال سلوكٍ فيه كثير من الغدر بنضالات الشعب، وذلك ما يضع ثقافة المؤسسة العسكرية السودانية على مائدة التشريح، حيث ظل هذا الجيش يراكم ثقافة الانقلاب منذ أكثر من ستة عقود تقريبا، ولا يرى في الحراك المدني سوى جسر ييسر له الانقضاض لإعادة إنتاج البؤس السياسي بوجوهٍ مغايرة.