سقط برميل متفجر على أحد البيوت في مدينة جاسم بدرعا، ركض الرجال لانتشال الضحايا، أحدهم كان يصور ما جرى بكاميرا هاتفه، كان كثير من اللهاث والغبار يملأ المشهد، وكثير كثير من الصراخ، اقتربت العدسة الصغيرة من شيء يتحرك وسط الركام، كان هناك جنين وردي يرتدي رحم أمه التي صارت أشلاء مبعثرة، يكابد الهواء الثقيل كسمكة سحبت للتو من الماء.
الفيديو المنشور على يوتيوب قبل ثلاثة أعوام ونيف، لم يكن يختلف كثيراً عما سبقه أو ما سيأتي من بعده، غير أن جرعة الدراما المأساوية فيه، كانت زائدة عن الحد،... استدعت لي حمى أصابتني ليومين.. كنت أهذي طوالهما: "سورية دراما.. مش حتقدر تغمض عينيك".
لا يختلف كثيرون حول أهمية الدراما السورية وما أحرزته، لا سيما في أعوامها الأخيرة قبل الثورة السورية، وبغض النظر إن كان للغث الرديء دور فيما حققته من انتشار على المستوى العربي، لا سيما الأعمال التي اعتمدت الفرجة والثرثرة غير المجدية، كسلاسل "صبايا وباب الحارة"، إلا أنها دخلت قلوب كثيرين من السوريين، عندما تحدثت عنهم هم، وحملت همومهم، وقدمت واقعهم بطريقة يجوز وصفها في ذاك الزمان بالجريئة، مثل "بقعة ضوء، والانتظار، وغزلان في وادي الذئاب، والولادة من الخاصرة".
لكن الدراما الواقعية التي يعيشها السوريون منذ خمس سنوات وأكثر، ابتلعت الدراما التلفزيونية، فما عاد للأخيرة وجود، أو ربما باتت قزمة في حضور الواقع، غير قادرة على رصده ومعالجته ومحاكاته، وهي إن حاولت.. جاءت فاشلة تستدعي الغثيان مرات، والضحك مرات ومرات، تماماً كما في ثلاثية موطني الأخيرة.
أما عناصر الفشل والغثيان في الثلاثية تلك، في الشكل والمحتوى، فكانت أركانها الأخطاء والسطحية والتهرب، والكثير الكثير من عدم الصدق.
سيضحك السوريون طويلاً، وهم يصغون طوال 3 ساعات، لحوارات ساذجة، اتكأت في أكثر من مرة على عبارات ممجوجة سئموها وعلى وعي زائف يعيدهم إلى مقاعد الدراسة البعثية، وهم الذين تجاوزوه بدمائهم ودموعهم وتضحياتهم.
وسيضحك السوريون، لا سيما من ركب "البلم" (القارب المطاطي الذي يمتطيه المهاجرون)، وهم يرون المشهد الذي دار بين الممثلين، بينما كان البلم الذي يحملهم على وشك الغرق، وكل واحد منهم ينتظر الآخر لينهي جملته، فما من شيء يستدعي الهياج أو التوتر أو النزق أو تداخل الكلام.
وسيضحك السوريون كثيراً، لا سيما من خاض منهم تجربة اللجوء على كحل وماسكرا الممثلة ديمة الجندي، والتي بقيت ثابتة لا تسيل مع أنها سبحت في البحر أميالاً وقطعت الغابات، لم ينكش شعرها ولم يتلبد، وبدت أظفارها في مشهد طلب الزواج، وكأنها خرجت للتو من صالون تدريم الأظافر، كذلك أمل عرفة في غالبية المشاهد.
وسيضحك السوريون أيضاً، لا سيما ممن غرق أطفالهم، وهم يسمعون أمل عرفة تشتم البحر، فهو وحده المسؤول عن هذه الجريمة، ما من نظام طغى دافعاً الناس إلى هذا الخيار المرير، يستحق الشتم، وما من أنظمة أخرى، اكتفت بالفرجة أو تاجرت أو دعمت، تستحق أن يصب عليها جام الغضب.
كذلك سيضحك السوريون، لا سيما ممن ثكلوا بأبنائهم، وهم يرون الممثل علي كريم وقد فقد عقله، بعد أن علم بأن صاروخاً سقط على منزله فقتل ولديه، من دون أن يخبرنا الكاتب الدرامي مازن طه، من أي منصة انطلق هذا الصاروخ، ومن يملك صاروخاً في هذه الحرب الطاحنة... ومن هو القاتل بالتحديد.
وسيضحك السوريون من دون توقف، إذ كان عنوان الثلاثية موطني، لكنها لم ترصد سوى ما يصيب السوريين خارج الوطن، مستغلة أحداثاً شهيرة، من الغرق إلى المتاجرة بالبشر والاختناق في السيارات المبردة، هرباً من رصد ما يجري داخل "موطني"، من اعتقال وقصف ودمار وتعذيب وتعفيش.
أشياء كثيرة سيضحك عليها السوريون، لعل أهمها، أن من اختار أن يحاكي معاناتهم، لا يزال يحيا براحة تامة في كنف المسؤول المباشر عن مأساتهم، وغالبيتهم، لا يبدو واضحاً أن ما يجري في سورية يؤرقهم. غير أن الأيام قد تحمل للسوريين المزيد من الكوميديا السوداء.. فمن يدري.. ربما سنرى وبسبب كسل المؤسسات المعارضة، وتقصيرها في هذه الساحة، مسلسلاً يؤدي فيه دريد لحام دوراً عن المهندس عمر عزيز، وسلاف فواخرجي دوراً عن الطالبة الجامعية رحاب العلاوي، ويخرجه نجدة أنزور
أشياء كثيرة سيضحك عليها السوريون وهم يتابعون ثلاثية موطني، من شارة البداية إلى الرقم الذي وضع على جثة الممثلة أمل عرفة التي ماتت في الختام متجمدة داخل شاحنة، وسيجففون دمع القلب بينما تتلاطم في عقولهم، الأرقام السوداء التي كتبت على جباه عشرات الآلاف من المعتقلين الذين قضوا تحت التعذيب... ولم يكن عمر ورحاب آخرهم.