ثلاثة أفلام تونسية جديدة... بحثاً عن خلاص مفقود

19 ديسمبر 2016
سارة حناشي (يمين) وهيام عباس في "جسد غريب"
+ الخط -
تتميّز الأفلام التونسية الثلاثة، المُشاركة في الدورة الـ 13 (7 ـ 14 ديسمبر/ كانون الأول 2016) لـ "مهرجان دبي السينمائي الدولي"، بمفرداتٍ جمالية، متفاوتة الجودة والرهافة والعمق، تتوغل في ثنايا أفرادٍ، يعيشون حالات انهيار ذاتي داخلي، وسط تخبّط عامٍ، ويحاولون خلاصاً يريدونه بداية جديدة لحياة مختلفة. ورغم أن التفاوت السينمائي واضحٌ بينها، إلاّ أن لكلّ واحد منها موقعه في مقاربة حالة إنسانية ونفسية واجتماعية، وهو موقعٌ مُشاهِدٌ ومُراقِبٌ ومتابعٌ، ومؤثِّر أحياناً في المسار الحياتي لشخصية أو أكثر، وفي السياق العام للعيش.

تلتقي الأفلام الثلاثة ـ "نحبك هادي" لمحمد بن عطية و"جسد غريب" لرجاء عماري (المهر الطويل)، و"زينب تكره الثلج" لكوثر بن هنية (ليال عربية) ـ عند مسألتين اثنتين: التعمّق، جمالياً ودرامياً وإنسانياً (وإنْ باختلافٍ سينمائي في المعالجة وأسلوب العمل)، في أحوال الفرد، ككائن بشري ذي انفعال ورغبات وهواجس وأسئلة؛ والابتعاد عن "ثورة الياسمين" (2010)، والاكتفاء بمصائر شخصياتٍ حيّة، تتوزّع (المصائر) وفقاً لحالات محدّدة، تجد كل شخصية نفسها فيها، كأن يكون الحبّ الباحث عن تمرّد وخلاص إحداها (نحبك هادي)؛ أو كأن تكون الهجرة غير الشرعية، وما تنتجه من مفاجآت وصدمات ومتاهات، دافعاً لحراك هذه الشخصية أو تلك (جسد غريب)؛ أو كأن تكون "السيرة المشتركة" لصبيّة وأمها، نواةً جوهرية لحكايةٍ ممتدة على 6 أعوام متتالية (زينب تكره الثلج).

مفارقة ثانية يُمكن التنبّه إليها أيضاً: لرجاء بن عمّار وكوثر بن هنية أفلامٌ سابقة على آخر عملين لهما؛ في حين أن "نحبك هادي" يُعتَبر بداية سينمائية لمحمد بن عطية، في مجال الأفلام الروائية الطويلة، علماً بأن له 5 أفلام قصيرة. مفارقة لن تبقى شكلية فقط، إذْ تبدو بداية بن عطية متماسكةً ومتينة البناء، في سرد حكاية شابٍ مقيم في حصار خانق داخل عائلته، على نقيض التفكّك الدرامي، في سرد حكاية سامية، المهاجرة إلى فرنسا لخلاصٍ منشود، في "جسد غريب". بينما الفيلم الثالث لكوثر بن هنية، بعد "الأئمة يذهبون إلى المدرسة" (2011) و"شلاّط تونس" (2014)، يزداد نُضجاً فنياً ودرامياً، ويمنح حكاية الابنة وأمها أبعاداً متعلّقة بالحبّ والزواج والهوية والانتماء والغربة والإسلام والعلمانية، مطروحة كلّها بسلاسة سينمائية، تحمل عمقاً تأملياً في أحوال وانفعالات ومسارات، بعيداً عن كلّ تنظير ثقافي ـ فكري، يُسيء إلى البناء السينمائي، الذي تصنعه بن هنية بشفافية تدعو إلى التأمّل الهادئ، وبحساسية تُحرِّض على استكمال المتابعة البصرية لأحوال أناسٍ مختلفي الأعمار والانتماءات والمسالك التربوية والثقافية والاجتماعية.



التفكك الدرامي انعكاسٌ لتعبير آخر، يُمكن أن يكون وصفاً أدقّ لـ "جسد غريب": ادّعاء فني في اشتغالٍ سينمائي. فالشخصية الأساسية سامية (سارة حناشي)، وإنْ تبقى الأفضل سينمائياً، تهاجر إلى فرنسا بطريقة غير شرعية، بحثاً عن خلاصٍ من أوضاعٍ لا تحتملها. مسارها الفرنسي يُحسِّن، سريعاً، من وضعها، إذْ تلتقي ليلى (هيام عباس)، وهي أرملة تعيش وحيدة في منزل فخم، فتساعدها بمنحها عملاً كمُساعدة لها. لقاء سامية بعماد (سليم كشيوش) يُشكّل خطوة أولى في حياتها الجديدة، لكنه (اللقاء) يفتح ماضياً تريده منغلقاً، ويؤدي بها إلى اكتشافات متنوّعة، لن تتماسك في بنيتها الدرامية والفنية.

علاقة ثلاثية يُراد لها أن تكون مزيج حبّ تائه يرغب في البوح عن انفعالاته وأهوائه، ورغبات مكبوتة تحتاج إلى متنفَّس، وهواجس مُقلِقة يُظَنّ أن علاقة كهذه كفيلة بتبديدها. لكن العلاقة مفتعلة بشكل واضح، وأداء الشخصيات الثلاث يتكامل وافتعالٍ كهذا، من دون بلوغ حدّ سينمائي مقبول في متابعة مصائرها.

وهذا يختلف تماماً عن نمط العلاقة المصوّرة في "نحبك هادي" و"زينب تكره الثلج". فهادي (مجد مستورة) محتاجٌ إلى منفذٍ للخروج من حصار أمٍّ تُفضِّل شقيقه عليه، المنسحق بدوره أمامها، قبل الاعتراف لشقيقه بخيباته وانكساراته. وزينب وأمها وداد خليفي ترتبطان بعلاقة وطيدة، تبدو الابنة فيها مسيطرة وضاغطة، خصوصاً بعد معرفتها باستعادة والدتها قصة حب قديم بينها وبين شاب مقيم في كندا. هادي يريد حرية واستقلالية لن يعثر عليهما إلاّ بلقائه صبية جميلة على شاطئ البحر، فيشعر معها براحةٍ حقيقية في الذات والروح والجسد. ووداد ترغب في عيش انفعالها الأول، فتُصارع من أجله، وتتزوّج من تُحبُّه، وتذهب معه، رفقة ابنتها وابنها، إلى كندا، لإقامة مليئة بتبدّلات حقيقية في ذات زينب وروحها وجسدها أيضاً. وإذْ يقع هادي في عجزٍ عن كسر المحظور، تستكمل زينب حيوية اكتشافاتها في كندا، مع أن والدتها تُصبح مطلّقة.

البناء الدرامي في "نحبك هادي" مائلٌ إلى سلاسة الصُوَر في سردها حكايات متداخلة وكثيرة، ترتبط كلها بحكاية هادي وشخصيته وارتباكاته وغضبه وعشقه وانفعالاته. في حين أن كوثر بن هنية تستكمل، في "زينب تكره الثلج"، نمطاً تُبدع فيه، منذ "شلاّط تونس": تداخل بصري جميل بين التوثيق والمتخيّل الروائي، إلى درجة أن الحدود تنعدم، والصُوَر توهم المُشاهد بانتمائها إلى نمط دون آخر، في حين أنها منتمية إلى النمطين معاً، في تركيبٍ سينمائي متين البنية الدرامية.


دلالات
المساهمون