ثلاثة أسباب للعنف ضد بيسّي هيد

17 ابريل 2015
(الصورة: سويلنت كوميونيكيشن)
+ الخط -

تأسس المشروع النظري للفيلسوف الفرنسي، ميشيل فوكو، على دراسة "الخبرة الإنسانية المتجاوزة للمعقول"، وكان أحد مصادر كتابه "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي"؛ لوحة "باحة مع المجانين" التي رسمها الإسباني فرانشيسكو دي غويا عام 1798.في هذه اللوحة يصور غويا جمهرة من المجانين العراة، يتقاتلون في سجن لا تأتيه الإضاءة إلا من فتحة في الأعلى.

ثم في عام 1819 قام غويا بإعادة تصوير الفكرة نفسها في لوحة "مستشفى المجانين"، لكن هذه المرة يبدو على المجانين، الذين زاد عددهم، الإنهاك الجسدي في السجن الذي أغلق الفنان سقفه هذه المرة، ربما لكي لا يزعجوا العالم بضجيجهم.

استمر ضيق العالم بضجيج المجانين بوتيرته المعتادة، حتى جاء الدور، بعد قرن ونصف من "مستشفى المجانين"، على بيسّي هيد (Bessie Head) الكاتبة التي وُصفت بأنها "غريبة الأطوار"، وهو نعت مهذب لشخصية مرّت بالكثير ولحق بها الكثير. فقد أودعت هيد مشفى "لوباتز" للأمراض العقلية، بعد أن أُمسك بها أكثر من مرة تقوم وتتلفظ بأشياء صادمة في الأماكن العامة. تلك التجربة كانت العصب الذي أسست عليه روايتها "مسألة سلطة" (1973).

توثق كتابات هيد (1937-1986) - رغم ذاتيتها المفرطة - لحقبة تاريخية مهمة في جنوب أفريقيا، اتسمت بالتنكيل والتهميش والعنصرية، دوّنتها صاحبة "مفترق الطرق المسحور" على نسق فانتازيا تاريخية ذات شخوص سوداوية الطباع، غارقة في الهلوسات والصراعات الدموية.

ورغم معاناة بيسِّي مع المرض العقلي في أكثر فترات حياتها، إلا أنها حافظت على مقدار من رباطة الجأش مكّنها من تدوين جزء من "الخبرة الإنسانية الاستثنائية" التي مرّت بها، فلم تغلق الكاتبة على "مجانينها" الأسوار والأسقف كما فعل غويا، بل أطلقتهم أحراراً على صفحات رواياتها.

كانت بيسّي من النساء السود القلائل في جنوب أفريقيا اللائي استطعن اختراق حقل كتابة السيرة الذاتية، ذلك الفضاء الذكوري الذي تسيطر عليه الطبقة الأرستقراطية الحاكمة من البيض التي كانت تنظر بقلق نحو الشخصيات التي تحركها هذه الكاتبة: الفقراء والمومسات ورجال الشرطة الفاسدون والسجناء السياسيون والجوعى والمجذومون وكذلك المجانين.

ربما يكون جزء من فرادة بيسّي - التي توفيت مثل هذا اليوم عام 1986 - أنها المرأة المهجنة التي وُلدت في مدينة بيترماريتزبرغ ثمرة نزوة بين امرأة بيضاء ثرية كانت تعاني مرضاً عقلياً، وخادم أسود مجهول. جعل المرض الأم تنزوي إلى مكان منعزل لتلد فيه طفلتها، التي ستعاني أيضاً من ذات العلة العقلية، إضافة إلى معاناتها من عدم الترحيب في بلادها بمن كانت في مثل وضعها. شبهت بيسّي "الولادة السريّة" التي أتت بها إلى العالم بولادة المسيح؛ صورة دينية زاد من رسوخها في مخيلة الطفلة النشأة في بيت كاثوليكي محافظ.

كانت والدة هيد مُصرّة أن تمنح اسمها للمولودة، ليصبح اسما الأم والابنة متطابقين في الأوراق الرسمية: "بيسّي إميليا إميري". وبما أن الأم المريضة كانت عاجزة عن تربية ابنتها، تم إرسال الطفلة إلى عائلة طلبت تبنيها، ولكن سرعان ما رفضتها حين تبين أنها ليست بيضاء البشرة، فلم تجد الطفلة إلا عائلة كاثوليكية متزمتة دينياً لرعايتها، الأمر الذي استمر لفترة قصيرة فقط، ثم مجدداً تم التخلّي عن بيسّي، فأُرسلت إلى مدرسة إنجليكانية على الرغم من نشأتها في بيت كاثوليكي.

كان هذا "التحوّل الديني" صدمة غيّرت مجرى حياتها. النظام التعليمي الكنسي الصارم جعل الطفلة تعيش في عزلة موحشة زادت بعد اكتشافها حقيقة ولادتها ونشأتها، فعانت من شرخ عميق في الذاكرة وجرح لم يندمل.

بدأت بيسّي مسيرتها الصحافية في مجلة "ذا غولدن سيتي بوست"، كأول امرأة تعمل في أكبر صحيفة لا يقرأها البيض! كانت بيسّي تعاني من تمييز على أساس النوع، خلال عملها، كونها المرأة الوحيدة في مقر العمل. وعانت من التمييز العنصري من (أبناء جلدتها)، فعلى الرغم من كونها "ملوّنة"، إلا أن جيرانها من "الملونين" كانوا يتصرفون على أنهم أرقى ثقافياً منها؛ يضطهدونها ويشككون في خلفيتها الإثنية، بسبب بشرتها الداكنة أكثر منهم، ولكن بشرتها في الوقت نفسه كانت أفتح من بشرة السود.

في مدينة جوهانسبيرج، عملت مع مجلة Home Post حيث التقت بطلها المتوّج "مانغاليز روبرت سوبوكوي"، القائد الثوري لحزب المؤتمر الأفريقي، وهناك شهدت بيسّي "مذبحة شاربفيل" (1960) التي قامت على إثرها حكومة هنريك فيورود بحملة اعتقالات شرسة طاولت بيسّي، حيث نُكّل بها بسبب "عدم تعاونها بكفاءة" مع الشرطة.

وعقب أزمة عاطفية لاحقة، انهارت بيسّي تماماً، ما دفعها إلى محاولة انتحار فاشلة في ذلك العام. ثم تواصلت أزماتها النفسية لتقضي ست سنوات كاملة في مستشفى للأمراض العقلية، حيث كتبت مسودة رواية "الكرادلة" التي كانت مهملة، لظن الكاتبة بأن النص غير ناضج كفاية للنشر، فلم تنشر إلا بعد موتها.

كانت بيسّي ترغب بمغادرة جنوب أفريقيا، ولكن نظام الفصل العنصري رفض إصدار جواز سفر لها، فلم تجد بُداً سوى الخروج بلا أي إمكانية للعودة، فرحلت إلى جمهورية بوتسوانا (1964)، حيث عاشت كمعلمة في فقر مدقع، لكنها فقدت وظيفتها هذه بعد فشلها في تجاوز اختبار سلامة القوى العقلية، الذي فرضته عليها السلطات التعليمية في البلاد.

الفقر والجنون، دفعا الكاتبة مرة أخرى إلى المصحة العقلية، ولكنها ظلت تكتب رغم كل الظروف، إلى أن أصاب الجميع اليأس من تغييرها، وتركوها، أخيراً، تعيش بسلام مع نفسها. هنا كانت اللحظة المنتظرة، فبدأت بيسّي في التعافي الذاتي، والأهم من ذلك؛ فقد خرجت فراشة من شرنقة الماضي الكئيب، فكان صعود أهم رواياتها "حين تجتمع غيوم المطر" التي حققت لها ربحاً مالياً جعلها في وضع مادي مستقر مكّنها من إكمال مسودة رواية "مارو" في خريف 1969؛ في ذات العام الذي خرجت فيه من المصحة العقلية.

قهرت بيسّي الهيمنة الذكورية والعنصرية والفقر والجوع، وفوق ذلك كله انتصرت على المرض العقلي لتحلّق في فضاء الفكرة الكونية، تعلن تحيزها للمستضعفين على حساب ذوي السلطة والنفوذ، ولكنها في الوقت نفسه كتبت للجميع حتى لمن اضطهدوها.

في آخر مقالاتها الذي كان بعنوان "لماذا أكتب"، تقول هيد: "أنا أبني سلماً نحو النجوم، إنني أمتلك السلطة لأن آخذ كل البشر معي إلى هناك، لهذا السبب فأنا أكتب".

عاشت في كنف المهمشين، وكتبت من أجلهم، واستلهمت من ألم الواقع تفاؤلاً للمستقبل، ووصلت إلى النجوم عبر سبر أغوار الفضاء المظلمة وتجربة "خبرة إنسانية متجاوزة للمعقول".

المساهمون