10 ابريل 2019
ثكنة زنوبيا
مارسَ نظام الرئيس السوري السابق، حافظ الأسد، أبشع طمس بشري لحضارة تدمر في ستينيات القرن الماضي، عندما أنشأ سجن تدمر العسكري، لتطغى سمعته على سمعة الآثار الموجودة بالقرب منه. ومن الأسد الأب إلى الأسد الابن، تتواصل الرعونة وحب التدمير حتى وصولها إلى وحشية داعش. استمر هذا الطمس، المغطى بالعنف والدماء وأنات المظلومين والمقهورين، قرابة نصف قرنٍ، قبل أن يزيل تنظيم داعش السجن بالكامل.
كلٌّ من النظام السوري وتنظيم داعش يمارسان الدمار بطريقتهما الخاصة، فحافظ الأسد أنشأ السجن العتيد قرب حضارة يعود تاريخها إلى النصف الثاني من القرن الأول قبل الميلاد، وهو التاريخ الذي ازدهرت فيه مملكة تدمر على يد ملكتها زنوبيا، منافسة في عظمتها وقوتها للإمبراطورية الرومانية. وبدلاً من أن تُذكر تدمر المحفوفة بالآثار الجميلة، أصبحت، بعد ذلك التاريخ، اسماً مقترناً بالقهر والإذلال والتعذيب بكل صنوفه حتى وصلت إلى مجازر جماعية عديدة، تمت خلال سنوات طويلة، وأشهرها مجزرة عام 1980. ثم استمرت المجازر في بدايات الثمانينيات، وراح ضحيتها آلاف السوريين من المعارضين سياسياً والموقوفين عسكرياً، في "حفلات التعذيب" المنتهية بالإعدام، والتي قال عنها شهود معتقلون سابقون إنّه كان يتم تصويرها بالفيديو، وإرسالها إلى الرئيس حافظ الأسد في قصره المنيف، ليتلذذ بمتابعتها.
ويستمرُّ تدمير الحضارة بآلة العنف والدماء بيد الأسد الابن الذي يمارس التعذيب نفسه بفظاعة أكبر، ويضيف إليه نوعاً من القتل الممنهج.
أما داعش الثور الهائج، والذي يمتلك سجوناً أفظع من سجون نظام الأسد، والتي يمكنها أن تعقد محاكماتها في أي مكان، يتنفس منها المدان بشرعها الرعب مع الهواء الطلق، ويضيق براح ساحات تنفيذ إعدامها حرقاً، أو قتلاً بالسيوف، أو نسفاً بأكثر مما تضيق زنازين الأسد. وداعش عدو الحضارة والآثار الأوّل لم يدمّر السجن عقاباً للنظام، وإنّما قدمّ له خدمة لا تُوصف، بطمس كل آثار جرائمه، وكأنّه في اتفاق معه على القيام بهذه المهمة، فقد قام التنظيم بالتدمير بالمفجرات، بعد نقل السجناء إلى مكان مجهول، فلم يحرّرهم من قبضة النظام، كما لم ينهِ حياتهم، وقد قيل إنّ الموت في هذا السجن أهون من الحياة بداخله ساعة. على الرغم من أنّ هذا السجن يحمل ذكرى سيئة ومؤلمة، فإنّ مثقفين وناشطين سوريين تحسّروا على تدميره، لأنّه حرمهم من توثيق هذا التاريخ الديكتاتوري، ووقوفه شاهداً على جرائم عائلة الأسد.
لم يضم سجن تدمر في عهده المناوئين فقط، بل كل من كان يهمس أو يصدر صوتاً معارضاً بأي شكلٍ. كما ضمّ الشباب والطلاب صغار السن الذين تم اعتقالهم لمجرد أنّ لهم علاقة قربى بالملاحقين. وتكمن المفارقة في أنّه بالقرب من ذكريات الانتصارات التي قادتها الملكة زنوبيا، تشهد مجزرة 1980 إعدام 120 من حفيداتها، حُبسن رهائن بسبب ملاحقة النظام السوري لأبنائهن وإخوانهن وأقربائهن. وسرد شاهد عيان قصة الأخدود العظيم الذي حُفر لهنّ، وتم إيقافهن على حافته، ثم أُطلقت النار عليهن، ومن ثم تم دفنهن لترجع صحراء تدمر صدى أنينهن، حيث لم تكن كثيرات منهن قد فارقن الحياة بعد.
وفي إشارة محمد برّو، المعتقل السابق في سجن تدمر، إلى أنّ جزءاً من عمليات التعذيب كان يتم تحت إشراف خبراء روس كانت أصواتهم ولغتهم مسموعة للمعتقلين، يتضح كيف يتكالب الطغاة ويتعاونون في تبادل إرث التعذيب، بإخضاع السجانين لدورات التعذيب الجسدي والنفسي. كما يتضح سرّ وقوف روسيا ضد قرارات مجلس الأمن باستخدام الفيتو، وكذا صفقات الأسلحة ودعمها كل طاغية في المنطقة.
هناك علاقة بين ما كان يحدث في سجن تدمر والمعتقلات السوفييتية، حتى الإنتاج الأدبي الذي كان رواته وأبطاله مسجونين سابقين في سجن تدمر يشابه إلى حدٍّ ما كتب ألكسندر سولجينتسين عن معسكرات الاعتقال في الاتحاد السوفييتي، حسب ما ذكر أحد الناجين في كتابه. ولا يقتصر التدخل المخضّب بالدم على رئيس روسي واحد، فهو سلوك بلشفي أسس للعقيدة السياسية لدى الاتحاد السوفييتي قديماً، كما لروسيا الآن. وبإعلان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، قبل أيام أنّ روسيا لا تشكل تهديداً للغرب، ولا داعي للخوف منها، يضع علامة استفهام عمن المقصود بالخوف من روسيا. فإذا كان الغرب والدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي تضع يدها على قلبها، خشية تدخل روسيا العسكري والسياسي في شؤونها الداخلية، فكيف بحال العرب الذين يرون روسيا تدعم حكوماتهم الديكتاتورية أمام أعينهم.
لم تنته شهوة محو الحضارة عند هذا الحد، لأنّها ابتدأت حينما عمد النظام السوري إلى تحميل زنوبيا ملكة تدمر آثام كل ما دار في السجن بتسميته "ثكنة زنوبيا"، كما حمّل منظومة المبادئ ثقل هذه الشعارات: وحدة- حرية- اشتراكية، المكتوبة عند المدخل. وعلى الرغم من تشويه اسم زنوبيا، وربطه بمملكة الرعب هذه، إلّا أنّ تدمر المدينة لن تستوي عندها ذكرى الرعب الأسطوري مع ذكرى الملكة المحاربة الجميلة التي قالت، بشجاعة فائقة، عندما وقعت في الأسر، ورفضت الخضوع للروم: "بئسَ ما تاجٌ على رأسِ خانعٍ ذليل ونعمَ القيد في يدِ الحرِ الأبيّ".
ويستمرُّ تدمير الحضارة بآلة العنف والدماء بيد الأسد الابن الذي يمارس التعذيب نفسه بفظاعة أكبر، ويضيف إليه نوعاً من القتل الممنهج.
أما داعش الثور الهائج، والذي يمتلك سجوناً أفظع من سجون نظام الأسد، والتي يمكنها أن تعقد محاكماتها في أي مكان، يتنفس منها المدان بشرعها الرعب مع الهواء الطلق، ويضيق براح ساحات تنفيذ إعدامها حرقاً، أو قتلاً بالسيوف، أو نسفاً بأكثر مما تضيق زنازين الأسد. وداعش عدو الحضارة والآثار الأوّل لم يدمّر السجن عقاباً للنظام، وإنّما قدمّ له خدمة لا تُوصف، بطمس كل آثار جرائمه، وكأنّه في اتفاق معه على القيام بهذه المهمة، فقد قام التنظيم بالتدمير بالمفجرات، بعد نقل السجناء إلى مكان مجهول، فلم يحرّرهم من قبضة النظام، كما لم ينهِ حياتهم، وقد قيل إنّ الموت في هذا السجن أهون من الحياة بداخله ساعة. على الرغم من أنّ هذا السجن يحمل ذكرى سيئة ومؤلمة، فإنّ مثقفين وناشطين سوريين تحسّروا على تدميره، لأنّه حرمهم من توثيق هذا التاريخ الديكتاتوري، ووقوفه شاهداً على جرائم عائلة الأسد.
لم يضم سجن تدمر في عهده المناوئين فقط، بل كل من كان يهمس أو يصدر صوتاً معارضاً بأي شكلٍ. كما ضمّ الشباب والطلاب صغار السن الذين تم اعتقالهم لمجرد أنّ لهم علاقة قربى بالملاحقين. وتكمن المفارقة في أنّه بالقرب من ذكريات الانتصارات التي قادتها الملكة زنوبيا، تشهد مجزرة 1980 إعدام 120 من حفيداتها، حُبسن رهائن بسبب ملاحقة النظام السوري لأبنائهن وإخوانهن وأقربائهن. وسرد شاهد عيان قصة الأخدود العظيم الذي حُفر لهنّ، وتم إيقافهن على حافته، ثم أُطلقت النار عليهن، ومن ثم تم دفنهن لترجع صحراء تدمر صدى أنينهن، حيث لم تكن كثيرات منهن قد فارقن الحياة بعد.
وفي إشارة محمد برّو، المعتقل السابق في سجن تدمر، إلى أنّ جزءاً من عمليات التعذيب كان يتم تحت إشراف خبراء روس كانت أصواتهم ولغتهم مسموعة للمعتقلين، يتضح كيف يتكالب الطغاة ويتعاونون في تبادل إرث التعذيب، بإخضاع السجانين لدورات التعذيب الجسدي والنفسي. كما يتضح سرّ وقوف روسيا ضد قرارات مجلس الأمن باستخدام الفيتو، وكذا صفقات الأسلحة ودعمها كل طاغية في المنطقة.
هناك علاقة بين ما كان يحدث في سجن تدمر والمعتقلات السوفييتية، حتى الإنتاج الأدبي الذي كان رواته وأبطاله مسجونين سابقين في سجن تدمر يشابه إلى حدٍّ ما كتب ألكسندر سولجينتسين عن معسكرات الاعتقال في الاتحاد السوفييتي، حسب ما ذكر أحد الناجين في كتابه. ولا يقتصر التدخل المخضّب بالدم على رئيس روسي واحد، فهو سلوك بلشفي أسس للعقيدة السياسية لدى الاتحاد السوفييتي قديماً، كما لروسيا الآن. وبإعلان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، قبل أيام أنّ روسيا لا تشكل تهديداً للغرب، ولا داعي للخوف منها، يضع علامة استفهام عمن المقصود بالخوف من روسيا. فإذا كان الغرب والدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي تضع يدها على قلبها، خشية تدخل روسيا العسكري والسياسي في شؤونها الداخلية، فكيف بحال العرب الذين يرون روسيا تدعم حكوماتهم الديكتاتورية أمام أعينهم.
لم تنته شهوة محو الحضارة عند هذا الحد، لأنّها ابتدأت حينما عمد النظام السوري إلى تحميل زنوبيا ملكة تدمر آثام كل ما دار في السجن بتسميته "ثكنة زنوبيا"، كما حمّل منظومة المبادئ ثقل هذه الشعارات: وحدة- حرية- اشتراكية، المكتوبة عند المدخل. وعلى الرغم من تشويه اسم زنوبيا، وربطه بمملكة الرعب هذه، إلّا أنّ تدمر المدينة لن تستوي عندها ذكرى الرعب الأسطوري مع ذكرى الملكة المحاربة الجميلة التي قالت، بشجاعة فائقة، عندما وقعت في الأسر، ورفضت الخضوع للروم: "بئسَ ما تاجٌ على رأسِ خانعٍ ذليل ونعمَ القيد في يدِ الحرِ الأبيّ".