كثيرًا ما نتحدث عن القمع السلطوي، بوليسيًا كان أو سياسيًا، ولكن ماذا عن القمع الشعبي، كجزء من حياة عامة المصريين، ممن يخرجون عن دائرة أهل السلطة والحكم؟
بغض النظر عن الجدل الشهير، حول ما إذا كانت قمعية الحاكم، صفة مكتسبة من كونه كذلك أم أنه تلقّى بذرتها قبل دخوله في فئة "أصحاب القرار"، فإننا نوثّق لفكرة كيف أصبح القمع جزءا من ثقافة الحياة عند المصريين، في البيت، ومكان الدراسة (مدرسة/جامعة/غير ذلك)، وفي العمل، والشارع، والأوساط المختلفة (ثقافية/ثورية/سياسية..إلخ)، ذلك القمع الذي إن كان يختلف في صورته عن الصورة النمطية لرجل البوليس حامل الهراوة، فإنه ربما لا يقل قسوة وخطورة، بل لعلي لا أبالغ لو وصفته أنه أكثر خطرًا من القمع السلطوي.
اقرأ أيضا: المحكمة الدستورية والسيسي.. لا أرى لا أسمع لا أحكم
-البُعد التاريخي:
من مشكلات كتابة التاريخ، أن رصده للأحوال الاجتماعية لا يكون وافيًا كما يفعل مع الأحوال السياسية، ولكن بعض الكتابات التاريخية والسير الذاتية تؤكد بين سطورها وجود القمع كممارسة "شعبية"، ففكرة الارتباط الشرطي بين معلم القرآن بالكُتّاب و"الفلقة" (وهي حبل يعلق فيه المعاقَب رأسًا على عقب من قدميه ليُضرَب عليهما بالعصا أو جريد النخل)، والارتباط بين المعلم في المدرسة و"الخرزانة" التي يهوي بها على أصابع المهملين والأشقياء من التلاميذ هي مجرد عينة من الأدلة ليس فقط على وجود القمع، بل على التطبيع معه وتقبله، خاصة أن كثيرًا ما يردد بعض كبار السن عبارات التحسُر على زمن هيبة المدرس التي تبلغ حد أن بعضهم يفخر بأنه لو كان مارًا بطريق ورأى مدرسه بالصدفة يمر به فإنه يسارع بالمرور من طريق آخر(مع أن التلميذ ليس شيطاناً والمدرس ليس عمر بن الخطاب!)، بل ويزيدوننا دهشة بقولهم إن من أهم أسباب تدهور التعليم منع المدرسين من ضرب التلاميذ، هكذا تم اختصار مجهود خبراء التربية والتعليم وعلم النفس، تحت ذريعة أن التلميذ هو كائن غبي وهمجي بطبعه بالتالي فهو يحتاج إلى العصا ليفهم ويطيع.
ولو تركنا فلقة الفقيه وعصا المدرس وخرجنا لنطاق أوسع لوجدنا "نبوت الفتوة"، فمصر من الدول التي تميزت بهذا الاختراع "الفتونة"، حيث لكل بضع حارات شعبية فتوة، المفترض أن وظيفته فرض النظام وحماية الحارة من اعتداءات أهل البلطجة والفساد، ولكن ما كان يجري في حقيقة الأمر أن هذه الفتوة عادة ما كان واحدًا من البلطجية، يأتي إلى "منصبه" بقوة العصا والعُصبة من الرجال، ويفرض الجبايات والإتاوات "المعلوم" على أهل منطقته وإلا نالهم منه الويل، والغريب أن أهل المنطقة كانوا يخضعون له ليس خوفًا من سطوته في المقام الأول، ولكن لاقتناعهم أنه "حاميهم وحافظ أعراضهم"، بالتالي فلا بأس بالخضوع لبعض قمعه طالما أن هذا "في مصلحة الحارة"، والقارئ في أدب الحارة للراحل نجيب محفوظ أو في بعض الكتب التي تناولت تاريخ وخفايا حواري وأزقة القاهرة والإسكندرية يستطيع أن يحصل على مزيد من المعلومات عن هذا الأمر.
وبعيدًا عن "نبوت الفتوة"، فإن تراثنا ينقل لنا نوعًا غريبًا من القمع، هو "القمع باللسان"، فثمة مثل شعبي يقول "الغجرية ست جاراتها"، بمعنى أن المرأة الرداحة بذيئة اللسان هي صاحبة السطوة وسط جاراتها في المناطق الشعبية، فبينما تخجل المرأة المهذبة من رفع صوتها أو رؤيتها تتشاجر في الشارع، فإن "الغجرية" أو التي توصف باللغة الشعبية بـ"الشلق" لا يهمها شيء فهي تقف قاطعة الطريق وترفع صوتها بالسباب المقذع الذي ينال ليس فقط خصمتها، ولكن من يحاول أن يسكتها، بالتالي فإن الكل يكفي نفسه شر الاصطدام بها، وتصبح لها سطوة معنوية على من حولها، بل أن بعض هؤلاء النسوة قد احترفن "الردح" فوُجِدَت "الردّاحة" التي تُستأجر بالمال لتتوجه لبيت خصم مستأجرتها وتخلع ملاءتها وتفرشها "فرش الملاية" وتجلس عليها وتكيل للضحية ما لذ وطاب من سباب وذم بذيء حتى تخضع لمن استأجرتها، أو كما يقال في المثل الشعبي "خدوهم بالصوت لا يغلبوكم" أي أن منطق هذا القمع هو أن الغلبة لصاحب الصوت الأعلى واللسان الأكثر سلاطة، لا لصاحب الحق.
ولو رجعنا بالزمن بضعة قرون إلى الوراء، وقرأنا بعض كتابات مؤرخي العصر المملوكي مثل ابن إياس والمقريزي، تحديدًا ما يتعلق بالعوام، لوجدنا نوعًا من التحبيذ لبعض ما كان يجري من قمع لبعض الطوائف الأقل شأنًا من العوام، بل وكان يتم وصفهم بتعبيرات مثل "الغاغة.. السوقة.. الحرافيش"، وهي تعبيرات تحمل من التحقير ما يفترض في هؤلاء الفساد الفطري مما يتطلب، بمنطق الكاتب، استمرار قمعهم تحسبًا لمجاهرتهم بالفساد.
وإضافة لتحبيذ قمع هذه الفئات من العوام، فإن القارئ في كتابات هذا العصر يستطيع أن يلاحظ بسهولة، تحبيذًا لبعض الإجراءات القمعية بحق النساء، فعلى سبيل المثال، نرى في عصر السلطان المملوكي الأشرف برسباي أنه حين هجم الوباء والغلاء على البلاد قام بعض الفقهاء بتفسير ذلك بأن النساء يخرجن متبرجات للأسواق والشوارع، فأمر السلطان النساء ألا يخرجن من البيوت، فعد البعض ذلك من حسناته! نحن هنا أمام نوع من القمع غير المباشر، فرجال الدين الذين استاؤوا من الحرية الممنوحة للنساء قاموا بقمعهن من خلال تحريض السلطان عليهن، وبمناسبة ذلك فإن هذه الواقعة تذكر بالعبارة الشهيرة "يرتفع الغلاء إذا تحجبت النساء" وبما اعتاده بعض المتشددين من رجال الدين، في أيامنا هذه، من تفسير بعض الظواهر المجتمعية بتحرر النساء، إلى حد تحميلهن مسؤولية التعرض للتحرش، مما يتسبب في خلق جو عام من القمع لهن، سواء بالتمادي في التحرش المادي والمعنوي بهن أو بإلقاء تبعات تعرضهن له عليهن، مما يعني أن هذا النوع من القمع المجتمعي له جذور شديدة القدم.
اقرأ أيضا: نجيب سويرس.. 5 أوجه صادمة للباكي على حال السوريين
-صور أخرى من القمع:
من نافلة القول الحديث عن القمع الأسري من الكبير(الأب/الأخ/العم/الحال/الذكر للأنثى) للصغير، أو القمع الديني من بعض المشايخ وأتباعهم لمن يختلفون معهم، فهذه من الأنواع التي لا حاجة لمزيد من تسليط الضوء عليها بحكم وضوحها، رغم أن وضوحها واستمرارها وضع كارثي يعني تبني المجتمع لهما وتطبيعه معهما.
ولكن ثمة أنواع أخرى من القمع المجتمعي، فيوجد القمع الثوري بالتخوين والمزايدة لأصحاب المواقف المختلفة مع التوجه الشائع وذلك الخلط بين الاختلافات السياسية وتلك الأخلاقية بتحويل كل خلاف سياسي إلى خلاف أخلاقي صالح للمزايدة والإدانة، (جولة واحدة على مواقع التواصل الاجتماعي خلال أو عقب حدث كبير تقدم أمثلة كثيرة لذلك)، ولدينا القمع الثقافي لمن لا يتفق ذوقه فنيًا أو أدبيًا مع "الموضة" المنتشرة أو من يجرؤ أن يختلف مع هذا أو ذلك من كبار المثقفين الذين تحسب أنهم كهنة معبد الثقافة وعلى من يخالفهم تهبط لعنات السماء (والمختلط بفئة "مثقفي
وسط البلد" ومرتاد المراكز الثقافية الشهيرة يجد مالذ وطاب من صور هذا القمع)، بل وحتى القمع الكروي لا ينقصنا، ولا أراني أبالغ إن قلت إنني أخشى أن يكون مجتمعنا السعيد قد ابتكر أنواعًا جديدة من القمع خلال فترة كتابتي هذا المقال.
اقرأ أيضا: مصر: 20 مليون جنيه نفقات "العدالة الانتقالية" والمحصلة صفر
الخلاصة:
كلنا قامع ومقموع في الوقت نفسه، بشكل أو بآخر، ما يعني أن شعبنا لو استطاع يومًا ما أن يتخلص من "القمع الأصغر" المتمثل في عصا رجل الأمن وسيف صاحب السلطة، فسيبقى أمامه عبء التخلص من "القمع الأكبر" المتمثل في كل من حوله تقريبًا في مختلف الأوساط التي يتردد عليها، إلا من رحم ربي!