تَكتكة على الشبّاك

06 نوفمبر 2017
أمواج ترد على العاصفة (بارتيك باز/ فرانس برس)
+ الخط -
"تَكْتِك على الشبّاك". مطرٌ لا أشبع من بداياته. بعد قليل تتخلّى السماء عن لونها الأزرق لتُلقي فوق رؤوسنا قطراتها. وفي اللحظة الأولى، نفتح أيدينا لها. نلتقط القطرة تلو الأخرى، ونستمتع بكلّ قطرة منفردة، كلقاءات أولى.

بيننا وبين البحر شوائب كثيرة. سيّارات تصطفّ على جانب الطريق، تصل إليه قبلنا. وفي الأسفل، عند الصخور، صيّادون يُدركون أنّنا سننظر إليهم طويلاً في كلّ مرة. كأنّنا نحسدهم، وقد اقتربوا منه كثيراً منذ زمن طويل، منذ اصطادوا سمكتهم الأولى. وهم يشبهونه. لونهم ليس أزرق وذهنهم ليس صافياً، لكنّهم يشبهونه.

البحر مأواهم الروحي. قصّة مشاركته الهموم تبدو سريالية. لا يستمع إلينا ولا يعرف بوجودنا. وحدها أنانيتنا تقنعنا بالعكس. قربه، لا نفتح أفواهنا. نستغلّ ذلك المدى بينه وبين السماء، وننتظر المطر. لا شبّاك. نسمعُ تكتكةً على الصخور وصوت مياه البحر فقط.

وماذا يحدث حين يلتقي مطر السماء مع مياه الأرض؟ الأول يعصف في وجه الثانية، فتطلق الأخيرة أمواجها غضباً. يصنعان علاقة عاصفة. فصلٌ جديدٌ يفرغان فيه غضباً عتيقاً بعد أشهر من الهدوء.
البحر ليس للجميع، بل لنا وحدنا، ولأولئك الذين يعرفونه مثل صيادين مبتدئين، أولئك الذين يحيون فيه أرواحهم الميتة. يتفقدونه صباحاً ومساءً، ويحزنون حين يغادرونه، ويحفظون حركة أمواجه.

أحلمُ أنّني أخطف المطر، وأحميه من عيون منتقديه، وأولئك الذين يفتحون مظلّاتهم في وجهه. مظلّات سوداء قاتمة. يحبسون أنفسهم تحتها في بقعة صغيرة يجرّونها معهم إلى الأمام، إلى أن يصلوا إلى خيمة أكبر... جدران وسقف. والحلم لا يصير حقيقة. ثمّ أخالني... أتوقّف عن الحلم. الأحلامُ الأولى لا تتحقّق. حين نعمل على تحقيقها تكون قد خرجت من تلك اللحظة العفويّة.

وبالكاد أسمعُ تكتكةً. لا يتفاعل المطر مع حواسي كما في الماضي. مدن اليوم تقسو على الأمطار، بجدرانها الإسمنتية الكثيرة، وتقسو على البحر، وتقسو علينا.
أفهمُ ذلك التعلّق. البحرُ مثل خبيثٍ نسعى إلى مواجهته. يُحبّ الصديق الذي لم يتعوّد الغربة بحرنا، هو الذي عرف بحراً مختلفاً. الروح ما زالت عالقة هنا، على رصيف مهترئ. وذلك المدى يتّسع لذكريات كثيرة، تتمدّد وتصير أجمل. في كلّ مرّة يزور بحره، قادماً من ذلك المكان البعيد والسريع، يشمّ رائحته ورائحة آخرين شاركوه عشقه هذا. ولا يندم. لا يعترف بخطيئة لن يغفرها أحد. ولا حاجة له لتوضيب تلك الروائح في زجاجات شفافة. البحرُ سيحفظها له.

وحين تمطرُ في تلك السماء البعيدة، سيبحث عن "تكتكة" على شباك خشبي حفر عليه كثيرون أسماءهم، فتصل روحه إلى بحره.

دلالات
المساهمون