الحديث عن توني موريسون (1931 - 2019) وأدبها لا يمكنه أن يتوقّف عند مقالات النعي السريع التي تبعت رحيلها في السادس من الشهر الجاري. فـ موريسون التي كانت أوّل كاتبة أميركية أفريقية تحصل على جائزة نوبل للآداب (1993) عن مجمل رواياتها التي تناولت موضوعات الحب والعدالة ومعاناة السود، عرفت كيف تفتح آفاقاً رحبة بأعمالها الروائية.
سواء برواياتها مثل "محبوبة" (1987) التي حصلت على "جائزة البوليتزر"، و"أشدّ العيون زرقةً" (1970) التي تروي قصّة طفلةٍ تحلم بأن تكون لديها عينَان زرقاوان، أو أعمالها غير القصصية كـ "أصول الآخرين"، أو مقابلاتها وتصريحاتها المخالفة للسائد؛ عرفت موريسون كيف تترك أثراً لا يُمحى في الكتابة والسياسة.
على الصعيد السياسي الداخلي، كتبت موريسون مقالاً بمجلة "النيويوركر" في الخامس من تشرين الأول/ أكتوبر 1998 عن بيل كلينتون وهو رئيس لأميركا منذ خمس سنوات، والذي جمعتها به صداقة، ضاربة عرض الحائط بقضية مونيكا لوينسكي ومُدينةً نفاق الإعلام الأميركي اتجاه هذه القضية، معتبرةً كلينتون "أوّلَ رئيس أميركي أسود"، بسبب "انحداره من أُسرة فقيرة من الطبقة العاملة، ولأنه تربّى مع أحد والديه فقط، يلعب الساكسفون ويحب الأكل الرديء (الفاستفود) مثل أي طفل أسود في أركنساس".
كما ساندت، في ما بعد، ترشيح باراك أوباما للرئاسة غير آبهة بأحد، كما أنها رأت بمرارة اليوم الذي تراجعت فيه أميركا عن وعودها، أميركا التي ما زالت تنظر إلى السود بأعين هيغلية، مليئة بالاشمئزاز، أميركا التي انتخبت دونالد ترامب رئيساً، ذاك الذي لم تكن موريسون تنطق اسمه بل فقط تنعته بالرقم 45 وتعدّه خطراً على العالم.
من أُفق مسيرتها، وجذورها وتاريخ استعباد أجدادها وكل ما حملت على أكتافها وأعطته لهذا العالم، صرحت توني لمذيع فرنسي وهي تصارع المرض في نيسان/ أبريل 2018 بشأن "الرقم 45" أنه "الشخص الأكثر تخلّفاً والأقل دراية بالأمور وهذا شيء مؤلم بل خطير... إنه لا يعرف حتى كيف يضحك. يبتسم ويعقد حاجبيه ولكن لا يعرف كيف يضحك، لأن الضحك يأتي من تجربة إنسانية عميقة وهو عاجز عن ذلك".
في اللقاء نفسه، قالت ضاحكةً إنَّ لديها طبيباً سيّئاً: "هو رجلٌ شرّير يقول لي: إذا لم تفعلي كذا سوف تموتين. أعتقد أنّني سأفعل ما يريد". كانت أمنتيها أنْ تعيش حتّى ترى "الرقم 45" يغادر الحُكْم.
تقول موريسون، في لقاء صحافي آخر، إنها لم تحس بثقل العنصرية التي تُقصي السود إلا بعد مغادرتها مدينة لورين في ولاية أوهايو، وإنها كانت تسمع عن العنصرية فقط من حكايات جديها. وتضيف في نفس اللقاء أنها لم تستوح شخصيّاتها من محيطها، مبرّرة ذلك بعدم رغبتها في بناء حياتها على حساب حيوات الآخرين. وهي تجربة شخصية مكنتها من الرجوع إلى تاريخ العبودية، وسبر نظرة النساء السوداوات إلى غيرهن ونشأة الفتاة السوداء.
كتبت توني موريسون من رحم قضية السود في أميركا، ومنها نسجت عالمها الروائي الخاص وكل نتاجها الآخر كان يدور أيضاً بطريقة ذكية وساحرة حول قضية الإنسان الأسود والإنسان عموماً، والعلائق التي تربط البشر أو الإنسانية، منذ أولى رواياتها "أصول أو جذور" التي تحكي قصة حياة امرأة من نفس الحيّ الذي نشأت فيه هي نفسها.
اعتبرت موريسون أن نضالها هو قلمها وعن طريقه تساهم في قضايا محاربة العنصرية. وكانت من بين الكتّاب الذين أدانوا عدوان "إسرائيل" المتكرّر، كما في البيان الذي وقّعته في آب/ أغسطس عام 2006 مع 17 كاتباً آخر (من بينهم: جون برجر، ونعوم تشومسكي، وهارولد بينتر، وكارولين فروشيه، وإدواردو غاليانو، وجوسيه ساراماغو)، ضد الجرائم التي "إسرائيل"، وازدواجية معايير الغرب الذي "يصمت عن قرابة عشرة آلاف معتقَل فلسطيني في سجون الاحتلال ويثور لأسر جندّي إسرائيلي واحد". هذا الموقف وغيره لم ينسه الإعلام الصهيوني الحاقد في يوم رحيلها، إذ حوّل دفاعها الأخلاقي عن الشعب الفلسطيني "تهمة" لها.
كثيراً ما شُبّهت معالجتها للمكان بمعالجة جيمس جويس، وكانت تردّ على ذلك بالقول إنّها تُحاول خلق شيء ربّما وجد تعبيراً كاملاً عنه في الموسيقى السوداء. تقول صاحبة رواية "جاز" (1992): "الكتابة بالنسبة إليَّ محاولةٌ لاحتواء ذلك الشيء؛ فموسيقى الجاز تُبقي المستمعَ دائماً على الحافّة، ولا تصل به إلى نهاية، حيث لا وجود فيها لنغمة مغلقة. نغمتها ممتدّة ونافرة وبلا نهاية"، وتستمر في فكرتها بالقول: "بما أن الجاز لم يعد موسيقى سوداء خالصة فوجب ان يأخذ مكانه شيء آخر".
* شاعرة وروائية مغربية مقيمة في باريس