تونس وعودة صورة الرئيس

02 اغسطس 2015

السبسي أمام ضريح بورقيبة (إبريل/2015/أ.ف.ب)

+ الخط -
منذ أسابيع، ووفق منهج قطرة قطرة، المستعمل عادة في مناطقنا القاحلة، والتي نرجو ألا تتسع فتلتهم حياتنا السياسية مجددا، طلعت علينا تدريجيا صورة السيد الرئيس، وهي معلقة داخل عدة مبان حكومية، ومنها خصوصاً قصر قرطاج، وبعض المؤسسات التابعة لرئاسة الجمهورية، كما علقت أيضا في بعض الشركات والمحلات الخاصة، وغيرها. عدة صور "تزين" الجدران خصوصا صورته، وهو يؤدي اليمين الدستورية، وعيناه خلف نظارات تشبه كثيرا نظارات الحبيب بورقيبة. تريد الصورة أن تقول، في ما تريد قوله، إن الرئيس ينظر إلينا، وإلى تونس بعينيّ الراحل بورقيبة ونظرته. يعتقد تونسيون كثيرون، وخصوصاً الشيوخ منهم وبعض الكهول ممن أدركوا الرئيس، أن لبورقيبة نظرة ثاقبة بكل معانيها، وتلك بعض من كاريزماه المتخيلة.
عادت إلينا صور الرئيس من جديد، ونحن لم نُشْفَ بعدُ من دائها الذي رافقنا أكثر من نصف قرن، حتى حسرت أبصارنا وحالت دون أن نرى الأشياء كما هي. ربما سنبدو لبعضهم "كمن يصطاد في الماء العكر"، أو كمن يحتفي علنا بنياته الفاسدة، فما الضرر، ونحن نتأمل صورة سيادته يقسم، ويده اليمنى الطاهرة على القرآن الكريم، أن يصون البلاد، ويخدم العباد؟
يدّعي السيد الرئيس، وله الحق في ذلك، أنه ابن بورقيبة. ولكن، كلنا نعلم أنه قد تنكر له في لحظة فارقة، وما زالت تصريحاته، في جريدة عربية تصدر في لندن بعد الانقلاب بساعات، أن الانقلاب شرعي، وأن بورقيبة غدا من أخبار الماضي. كان آنذاك سفير تونس في ألمانيا. ما الذي دفعه لقول هذا؟ هل الخوف أم تقدير المصالح؟ لا ندري الحقيقة، فحتى المعني بالأمر لم يعرج على ذلك في فيض تصريحاته الكثيرة. فرضيات عديدة لا نستطيع إثباتها، لكنها تربك تلك الادعاءات.

تطل صورة الرئيس علينا، هذه المرة، صغيرة الحجم، لكنها تتأهب لأن تكبر في الأيام المقبلة، خصوصا عند غفلتنا كغلة الخيار الذي يسميه التونسيون "ولد القمرة"، ذلك أن الأساطير الشعبية تروي أنه ينمو ليلاً، فحينما يخلد الناس إلى النوم، وخصوصا في الليالي المقمرة، يعقد العزم على النمو.
تماماً وقد خلد الناس إلى نومهم النهاري صيفاً من فرط الخدر، ستكبر صورة الرئيس في الأيام المقبلة، حتى إذا دخلنا السنة السياسية الجديدة، بعد شهرين تقريباً، ملأت علينا الإدارات، وربما زحفت على بعض الشوارع. ولكن، بأحجام متنوعة.
تقمص السيد الرئيس شخصية بورقيبة في كامل حملته الانتخابية: البدلة السوداء والنظارات المربعة الكبيرة وتسريحة الشعر، وحتى تلويحته الشهيرة بيده اليمنى، من دون أن ننسى بعضاً من عباراته الشهيرة.
هل كان ذلك استجابة لطلب اجتماعي على صورة بورقيبة؟ لا أعتقد. ولكن، في لحظات الإخفاق والمنعرجات الحادة والمميتة التي مرت بها الثورة، تمت صناعة ذلك الطلب. وربما يعود الأمر إلى ما قبل ذلك، أي حين تم المجيء بالسيد الباجي قائد السبسي، وتنصيبه رئيسا لحكومة بعد الثورة. لا شك في أن تلك لحظة فارقة، لما ستؤول إليه أمور عديدة حدثت بعد الثورة. ولكن، لم يكن الحنين إلى بورقيبة مثل الحنين إلى زمن بن علي، عطرا رخيصا تمت صناعته في السوق السياسية السوداء. في تلك السياقات، بدأت ترفع أولى صور بورقيبة لدى حركات سياسية ومدنية، حتى جاء حزب نداء تونس، وأصبحت تلك الصورة من شعائر اجتماعاته ومحامل اتصاله. ولكن، علينا ألا ننسى أن صور بن علي رفعت بشكل فيه كثير من التحدي والصفاقة، أخيراً، في بعض مدن الساحل، بعد العملية الإرهابية الفظيعة في مدينة سوسة. إنها الماكينة نفسها التي مهمتها اقتناص الفرص، إن لم تكن صناعتها، والعودة بنا إلى عصر عبادة الصور.
يتذكّر التونسيون كيف اختفت صور بورقيبة، بعد أقل من أسبوع من انقلاب نوفمبر/تشرين الثاني 1987. ولكن، سرعان ما عوضتها صور بن علي، بشكل أكبر حجما وكثافة، وكم ذبحت هذه الصور من مسؤولين، لكنها، في الوقت نفسه، رفعت آخرين إلى أعلى عليين.
قد لا تكون صورة الرئيس الحالي، التي بدأت في التكاثر، صادرة عن النزعات الفردية الشعورية، أو اللاشعورية، نفسها لمن سبقه، لكنها لن تكون عفوية في كل الحالات، بل تحركها استراتيجيات دقيقة، تصر عموما على أن تمنح الرئيس ما لا يملكه دستورياً، أي كثافة الحضور. يرغب صانعو صور الرئيس في أن تعوض له ما فقده دستوريا. ليس الرئيس في الدستور الجديد رئيس الدستور 1959. إنه رئيس محجوب شيئاً ما، وذلك ما لم يستسغه مستشاروه. الصورة في هذه الحالة تضعيف خيالي ووهمي لما ثلم من صلاحياته، ويتزامن ذلك مع حضور رمزي باهت لرئيسي الحكومة ومجلس نواب الشعب.
ليست الصورة هي التي تعنينا، في حد ذاتها، فقيمتها تكتسب كالعملة، إنها قيمة تبادلية، تُصاغ مما يضمنه الناس من قيم داخل سياق الإقبال عليها واستهلاكها.

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.