28 أكتوبر 2024
تونس وتحالفاتها السياسية
يردد، عادة، التونسيون أن بلادهم لم تنخرط منذ استقلالها في سياسة المحاور، وفضلت أن تنتمي إلى كتلة دول عدم الانحياز، والتي ضمت خليطا غير متجانس من دول العالم الثالث، الحالمة آنذاك بأن تكون لها طريق ثالث لا تسلكها بمفردها، بل تكون لغيرها بوصلة، غير أن الفقر والاستبداد والهيمنة الخارجية التي تصل إلى حد الابتزاز، والانقلابات أحياناً، جعلت هذه الدول تمر بامتحانات صعبة، خصوصا حين تندلع، بين حين وآخر، أزمات حادة بين القطبين، أو بين هذه الدول نفسها من جهة، والدول العظمى من جهة ثانية، وكم من مرة دفعت هذه الدول إلى الاصطفاف وراء هذين القطبين، حين تكون هي نفسها في نزاع مع صديقتها العضو في هذه الكتلة. كان هذا الانتماء إلى حد كبير دغدغة لمشاعر الاستقلال القومي التي تم التضحية بها، في أكثر من حالة سياسية، لها أثرها في مجرى التاريخ.
هل تقصدت تونس ذلك الاختيار أم اضطرت إليه، لتجنب إثارة الجارين الكبيرين مساحة ونفطاً، الذين يطوقانها من حدين طويلين. لا ندري حقيقة ما جرى في تلك العقود، ولكن، نعلم أن ذلك ربما صنعته المصادفات أو الحيثيات، وربما أيضا صنعته حكمة الغابرين. كان الاصطفاف الواضح، والصريح على الأقل، سيجلب لتونس "قلاقل'' كثيرة، كما يقول التونسيون، غير أن نكران أن تونس كانت في مظلة النفوذ الفرنسي، سيكون بدوره بلا قيمة أمام ما أثبتته الوقائع، وأحداث قفصة تمثل النموذج الأبرز لذلك. ولكن، كان ذلك يتم عموماً بكثير من الهدوء والنعومة.
لم يكن السيد محسن مرزوق، الذي رافق الرئيس التونسي، الباجي قائد السبسي، إلى واشنطن، وهو يمضي على وثيقة التفاهم مع الولايات المتحدة الأميركية، يعلم أنه بذلك سيعطي للسياسة الخارجية لبلاده منعرجاً خطيراً لا نعرف إلى أي تضاريس سيسوقنا.
بقطع النظر إن كان ذلك من مشمولات السيد مرزوق أم لا، وهو الأمين العام لحزب نداء تونس، ما يثير تداخلاً بين أجهزة الدولة والحزب الذي يشغل أمانته العامة، وإن كان ذلك تعدياً على صلاحيات الحكومة، وأساساً وزارة الخارجية، فإن الرجل لم يقدر استتباعات ذلك، على المديين، المتوسط والطويل، خصوصا أن مثل هذه المبادرات يفترض أن يكون موضوع مشاورات طويلة بين مكونات النخبة السياسية، فضلا عن حلفاء الحكم حالياً، وذلك ما لم يحدث في اعتقادي. لقد تم الإمضاء بشكل مباغت، كمن سجّل هدفا في مرماه.
لم ترتق ردود الأفعال الرسمية، على خلاف ما كان متوقعاً، إلى أهمية الحدث، فحتى حركة النهضة، حين سئلت، اكتفت بتصريح باهت، مفاده أن الرجل في الخارج، وأن أخلاق الساسة تقتضي انتظار عودته. ولكن، عاد منذ أكثر من أسبوع، ولم تصدر أي موقف. تقدر "النهضة" أحياناً أن أي موقف تصدره سيغضب طرفاً ما، حتى ولو كان ذلك الشيطان، فتختار الصمت، أو تقد مفردات من حجر الرخام. لذلك، تحرص، أحياناً كثيرة، على إرضاء الجميع، وأساسا خصومها، وذلك ما يفوت عليها حضوراً يليق بها. أما اليسار البرلماني الذي تربى على كراهية "الإمبريالية الأميركية" والاستعمار الجديد والرأسمالية التوسعية... إلخ، فإنه آثر تجميد تلك المقولات، واختار تحويل بصره إلى معارك محلية، المجلس الأعلى والإرهاب، وهو في الأصل مطمئن إلى فتوى تجيز له التحالف في محاربة الإرهاب حتى مع الشيطان، وقد جرب، في محطات سياسية سابقة، فتاوي أخرى، من قبيل قطع الطريق و"الاحتطاب السياسي"، باسم التصويت النافع.
خارجياً، جل المؤشرات تدل على أن الجزائر، حتى وإن التزمت إلى حد الآن الصمت، أو ما يشبهه، فإنها لن تنظر بعين الرضا إلى ما جرى أخيراً. تشعر أن الولايات المتحدة الأميركية قد تطوقها من ثلاث جهات، المغرب وتونس ومالي، وربما ليبيا قريبا. كانت الجزائر تحسب المنصف المرزوقي، الرئيس المتخلي، على المغرب، لأن والده قضى بعضا من عمره في هذا المنفى، وساقته أقداره إلى أن يكون له ذرية منها. ولكن المرزوقي ظل متمسكا بوحدة المغرب العربي، ولم يكن يبحث عن مظلةٍ، قد تهلكه حين يهم بطيها.
لم تكن الجزائر تنظر الى حكومة الترويكا في تونس، وأساساً حركة النهضة في الحكم، بعين الرضا، وكانت مرآتها تستحضر، كلما نظرت إليهم إسلامييها، وأساسا جبهة الإنقاذ، وما تلاها من تشكيلات خلطت الإسلام بالدم، في عشريةٍ من أحلك عشريات هذا البلد. لم تستطع الجزائر، على الرغم من طبقة سميكة من الرصانة الدبلوماسية، وتحفظ الجيران، أن تخفي ارتياحها، حين صعد "نداء تونس" إلى الحكم في الانتخابات الأخيرة، وقد لعبت دور الوسيط في أكثر من مرة، ولا يستبعد أنها عبرت ربما عن بعض الأماني قبيل الانتخابات. فبين الرجلين، الرئيسين عبد العزيز بوتفليقة والباجي قائد السبسي، ذاكرة مشتركة، وحنين كثير إلى زمن كانت فيه الزعامات مقدمة على الديمقراطية.
علمتنا التجارب الحديثة أن أميركا كانت دوما عاجزة عن حماية حلفائها من الإرهاب، خصوصاً العراق، اليمن، أفغانستان، وغيرها من الدول التي تحالفت مع أميركا، ومنحتها حتى قواعد لم تستطع أن تضمن لها سلاماً أو نصراً نهائيا على الإرهاب. المصادفات الغريبة أن جل تلك الدول لم تكن معنية بالديمقراطية، وربما وجدت في الإرهاب ذريعة، لتأجيلها أو تحريمها.
استطاعت تونس أن تحارب الإرهاب في سياق من التحول الديمقراطي الصعب والهش، في مناخ إقليمي مجاف لفكرة الديمقراطية برمتها، وعلى الرغم من جروح غائرة خلفتها العمليات الإرهابية في بلد يعد السلاح حكراً على أجهزة الدولة، وهذا بعض من حصانة نادرة صنعها التونسيون لأنفسهم، فإن الحصيلة إلى حد الآن مشرفة. قد يبرر بعضهم الخطوة التي أقدم عليها محسن مرزوق بأنها كانت تحت تلكؤ الجيران أنفسهم في دفع الأذى عنها. ولكن، علينا أن نحصّن ذاتنا بمزيد من الديمقراطية والعمل والعقل، فتلك وصفة لانتصار دائم وراسخ على الإرهاب، وما التحالفات إلا ضمانات مؤقتة غير موثوق بها، فضلا عن تكلفتها الباهظة.
لم يكن السيد محسن مرزوق، الذي رافق الرئيس التونسي، الباجي قائد السبسي، إلى واشنطن، وهو يمضي على وثيقة التفاهم مع الولايات المتحدة الأميركية، يعلم أنه بذلك سيعطي للسياسة الخارجية لبلاده منعرجاً خطيراً لا نعرف إلى أي تضاريس سيسوقنا.
بقطع النظر إن كان ذلك من مشمولات السيد مرزوق أم لا، وهو الأمين العام لحزب نداء تونس، ما يثير تداخلاً بين أجهزة الدولة والحزب الذي يشغل أمانته العامة، وإن كان ذلك تعدياً على صلاحيات الحكومة، وأساساً وزارة الخارجية، فإن الرجل لم يقدر استتباعات ذلك، على المديين، المتوسط والطويل، خصوصا أن مثل هذه المبادرات يفترض أن يكون موضوع مشاورات طويلة بين مكونات النخبة السياسية، فضلا عن حلفاء الحكم حالياً، وذلك ما لم يحدث في اعتقادي. لقد تم الإمضاء بشكل مباغت، كمن سجّل هدفا في مرماه.
لم ترتق ردود الأفعال الرسمية، على خلاف ما كان متوقعاً، إلى أهمية الحدث، فحتى حركة النهضة، حين سئلت، اكتفت بتصريح باهت، مفاده أن الرجل في الخارج، وأن أخلاق الساسة تقتضي انتظار عودته. ولكن، عاد منذ أكثر من أسبوع، ولم تصدر أي موقف. تقدر "النهضة" أحياناً أن أي موقف تصدره سيغضب طرفاً ما، حتى ولو كان ذلك الشيطان، فتختار الصمت، أو تقد مفردات من حجر الرخام. لذلك، تحرص، أحياناً كثيرة، على إرضاء الجميع، وأساسا خصومها، وذلك ما يفوت عليها حضوراً يليق بها. أما اليسار البرلماني الذي تربى على كراهية "الإمبريالية الأميركية" والاستعمار الجديد والرأسمالية التوسعية... إلخ، فإنه آثر تجميد تلك المقولات، واختار تحويل بصره إلى معارك محلية، المجلس الأعلى والإرهاب، وهو في الأصل مطمئن إلى فتوى تجيز له التحالف في محاربة الإرهاب حتى مع الشيطان، وقد جرب، في محطات سياسية سابقة، فتاوي أخرى، من قبيل قطع الطريق و"الاحتطاب السياسي"، باسم التصويت النافع.
خارجياً، جل المؤشرات تدل على أن الجزائر، حتى وإن التزمت إلى حد الآن الصمت، أو ما يشبهه، فإنها لن تنظر بعين الرضا إلى ما جرى أخيراً. تشعر أن الولايات المتحدة الأميركية قد تطوقها من ثلاث جهات، المغرب وتونس ومالي، وربما ليبيا قريبا. كانت الجزائر تحسب المنصف المرزوقي، الرئيس المتخلي، على المغرب، لأن والده قضى بعضا من عمره في هذا المنفى، وساقته أقداره إلى أن يكون له ذرية منها. ولكن المرزوقي ظل متمسكا بوحدة المغرب العربي، ولم يكن يبحث عن مظلةٍ، قد تهلكه حين يهم بطيها.
لم تكن الجزائر تنظر الى حكومة الترويكا في تونس، وأساساً حركة النهضة في الحكم، بعين الرضا، وكانت مرآتها تستحضر، كلما نظرت إليهم إسلامييها، وأساسا جبهة الإنقاذ، وما تلاها من تشكيلات خلطت الإسلام بالدم، في عشريةٍ من أحلك عشريات هذا البلد. لم تستطع الجزائر، على الرغم من طبقة سميكة من الرصانة الدبلوماسية، وتحفظ الجيران، أن تخفي ارتياحها، حين صعد "نداء تونس" إلى الحكم في الانتخابات الأخيرة، وقد لعبت دور الوسيط في أكثر من مرة، ولا يستبعد أنها عبرت ربما عن بعض الأماني قبيل الانتخابات. فبين الرجلين، الرئيسين عبد العزيز بوتفليقة والباجي قائد السبسي، ذاكرة مشتركة، وحنين كثير إلى زمن كانت فيه الزعامات مقدمة على الديمقراطية.
علمتنا التجارب الحديثة أن أميركا كانت دوما عاجزة عن حماية حلفائها من الإرهاب، خصوصاً العراق، اليمن، أفغانستان، وغيرها من الدول التي تحالفت مع أميركا، ومنحتها حتى قواعد لم تستطع أن تضمن لها سلاماً أو نصراً نهائيا على الإرهاب. المصادفات الغريبة أن جل تلك الدول لم تكن معنية بالديمقراطية، وربما وجدت في الإرهاب ذريعة، لتأجيلها أو تحريمها.
استطاعت تونس أن تحارب الإرهاب في سياق من التحول الديمقراطي الصعب والهش، في مناخ إقليمي مجاف لفكرة الديمقراطية برمتها، وعلى الرغم من جروح غائرة خلفتها العمليات الإرهابية في بلد يعد السلاح حكراً على أجهزة الدولة، وهذا بعض من حصانة نادرة صنعها التونسيون لأنفسهم، فإن الحصيلة إلى حد الآن مشرفة. قد يبرر بعضهم الخطوة التي أقدم عليها محسن مرزوق بأنها كانت تحت تلكؤ الجيران أنفسهم في دفع الأذى عنها. ولكن، علينا أن نحصّن ذاتنا بمزيد من الديمقراطية والعمل والعقل، فتلك وصفة لانتصار دائم وراسخ على الإرهاب، وما التحالفات إلا ضمانات مؤقتة غير موثوق بها، فضلا عن تكلفتها الباهظة.