24 أكتوبر 2024
تونس.. هيبة الدولة أم تقديس الرئيس؟
ربما كان أحد أكثر الانتقادات شيوعا لفترة تولي المنصف المرزوقي رئاسة تونس بعد الثورة غياب ما سماه بعضهم "هيبة الدولة"، حيث كانت وسائل الإعلام المناهضة لحكمه تُفرط في التركيز على ما تعتبره تهاونا منه في إعطاء منصب الرئاسة ما يستحق من الهيبة في النفوس، فرئيس الجمهورية لم يكن يرتدي ربطة العنق، ويزور المناطق الشعبية من دون مبالغة في البروتوكول الرسمي، ويتعامل مع الناس ببساطة من دون مسافة فاصلة، بل وفتح قصر الرئاسة ولأول مرة في تاريخ الجمهورية أمام التلاميذ والأطفال لزيارة قصر الحكم من دون محاذير. وهذه تصرفات اعتبرها الإعلام نقطة ضعف فادحة في شخصية الرئيس الذي كان عليه أن يحفظ للسلطة مكانتها، وللرئاسة هيبتها، بوصفها مظهرا لهيبة الدولة.
وإذا كان المرزوقي يقدم مبرّرات مختلفة حول نمط سلوكه الرئاسي، لاعتقاده بأولوية المواطن على صاحب السلطان، فإن خصومه تمكنوا من تجييش جانبٍ مهم من الرأي العام في أثناء الحملة الانتخابية، بالحديث عن هيبة الدولة التي ضاعت في حكم رئيسٍ هاوٍ، لا يتقن فن إدارة المنصب الأعلى في الجمهورية. ولم يكن غريبا أن غريمه الأساسي في الانتخابات حينها، الباجي قائد السبسي، كان من الذين يركزون، في أحاديثهم الإعلامية، على أهمية استعادة الدولة مكانتها في النفوس، من جهة كونها خطوة ضرورية للسيطرة على حالة الانفلات ومنع محاولات استضعاف الدولة التي أصبحت علامة على ممارسة يومية، بعد إطاحة نظام زين العابدين بن علي.
بعد توليه السلطة، بدأ الوافد الجديد لقصر قرطاج يتخذ خطواتٍ متسارعة، لتأكيد أهمية الحاكم وضرورة ترسيخ هيبته في النفوس. وكانت الخطوة الأولى للرئيس الباجي قراره إعادة نصب تمثال الرئيس السابق، الحبيب بورقيبة، في الشارع الرئيسي للعاصمة، في خطوة رمزية تؤكد على أفضال الحاكم على الوطن، بوصفه المحرر وقائد مرحلة البناء ما بعد الاستقلال.
وتدريجيا، أصبحت تنتشر الأخبار عن القضايا التي ترفعها رئاسة الجمهورية ضد بعض المدوّنين والصحافيين، بدعوى الإساءة لمقام الرئاسة، خلافا لسياسة سلفه الذي لم يكن يرد الفعل على من ينتقده أو حتى يسيء إليه شخصيا.
مع وجود جانب من الرأي العام لازال يستبطن أشكال الولاء والتقرّب من صاحب السلطة، صار معتادا متابعة مواقف لإعلاميين أو لمسؤولين سياسيين وحكوميين يطنبون في مدح الرئيس والثناء عليه، بشكل مبالغ فيه، فكان أن وصفه بعضهم "مبعوث العناية الإلهية"، فيما كتب آخر عن "شمسه التي سطعت في باريس" على هامش زيارة الرئيس السبسي فرنسا. وجاءت زيارة الرئيس، أخيرا، إلى مدينة سوسة، لتثير جدلا لم يتوقف على خلفية ما رافق الحدث من تصرفاتٍ أعادت إلى الذاكرة ما كان يجري زمن الاستبداد، فقد تم تسخير تلاميذ المدارس للترحيب بالرئيس، وتحركت السلطة المحلية في المدينة لتعبئة كل الجهود من أجل إنجاز استقبال "تاريخي" لرئيس الجمهورية الذي لم يكلف نفسه عناء زيارة الأحياء الشعبية، واكتفى بافتتاح مشاريع تابعة لرجال أعمال من حزبه (نداء تونس). وقام الإعلام الرسمي بتقديم تغطية مبالغ فيها للزيارة بشكل انزاح فيه التلفزيون الحكومي عن دوره الإعلامي إلى الانخراط في لعبة دعائية فجة، تعوّد على ممارستها زمن حكم بن علي. وقد أثارت هذه الممارسات ردود أفعال مندّدة، بداية من بيان النقابة المهنية لمدرّسي التعليم الثانوي الذي استنكر "التصرف المشين وغير المسؤول من الأطراف الإدارية المسؤولة عنه، والذي سلب التلاميذ حقهم في الدراسة والتعلم، وتعريضهم إلى مخاطر محتملة، أثارت الفزع والحيرة في نفوس أوليائهم". مؤكدا على إدانته الشديدة "هذه المحاولة المبتذلة لتوظيف الناشئة والمؤسسة التربوية في التجاذبات السياسية، وانتهاك مبدأ تحييد الشأن التربوي، واستقلالية المؤسسات العمومية عن كل الصراعات السياسية". وفي السياق نفسه، دعت الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري إلى النأي بالمرفق العمومي عن التوظيف السياسي الضيق، حيث لاحظت أن القناة الرسمية بثت "ريبورتاجا اتسم بأسلوب دعائي، لم يحترم قواعد المهنة الصحافية، إذ ركز في مساحةٍ مهمةٍ منه على مظاهر الاحتفاء التي تذكّرنا بالتحشيد، وتسخير إمكانات المؤسسات العمومية في خدمة صورة الشخص". وعلى الرغم من تبريرات المتحدث باسم رئاسة الجمهورية ما جرى، كان واضحا أن الانتقاد الواسع في مواقع التواصل الاجتماعي للممارسات السلطوية التي رافقت زيارة رئيس الجمهورية تكشف عن حساسية عالية لدى الشارع التونسي بشأن إمكانية عودة أشكال الاستبداد، مهما كانت التبريرات التي يتم تسويقها للناس. فثنائية الجذب إلى الخلف، وحالة "النوستالجيا" لزمن الحاكم المطلق التي تظهر لدى بقايا النظام السابق، من سياسيين ومسؤولين وإعلاميين، يقابلها توجس وتوثب من الرأي العام الذي يمثله الجيل الجديد ووسائل إعلامه غير الرسمية، وهو مشهد أصبح معتادا بعد الثورة في تونس الجديدة.
وإذا كان المرزوقي يقدم مبرّرات مختلفة حول نمط سلوكه الرئاسي، لاعتقاده بأولوية المواطن على صاحب السلطان، فإن خصومه تمكنوا من تجييش جانبٍ مهم من الرأي العام في أثناء الحملة الانتخابية، بالحديث عن هيبة الدولة التي ضاعت في حكم رئيسٍ هاوٍ، لا يتقن فن إدارة المنصب الأعلى في الجمهورية. ولم يكن غريبا أن غريمه الأساسي في الانتخابات حينها، الباجي قائد السبسي، كان من الذين يركزون، في أحاديثهم الإعلامية، على أهمية استعادة الدولة مكانتها في النفوس، من جهة كونها خطوة ضرورية للسيطرة على حالة الانفلات ومنع محاولات استضعاف الدولة التي أصبحت علامة على ممارسة يومية، بعد إطاحة نظام زين العابدين بن علي.
بعد توليه السلطة، بدأ الوافد الجديد لقصر قرطاج يتخذ خطواتٍ متسارعة، لتأكيد أهمية الحاكم وضرورة ترسيخ هيبته في النفوس. وكانت الخطوة الأولى للرئيس الباجي قراره إعادة نصب تمثال الرئيس السابق، الحبيب بورقيبة، في الشارع الرئيسي للعاصمة، في خطوة رمزية تؤكد على أفضال الحاكم على الوطن، بوصفه المحرر وقائد مرحلة البناء ما بعد الاستقلال.
مع وجود جانب من الرأي العام لازال يستبطن أشكال الولاء والتقرّب من صاحب السلطة، صار معتادا متابعة مواقف لإعلاميين أو لمسؤولين سياسيين وحكوميين يطنبون في مدح الرئيس والثناء عليه، بشكل مبالغ فيه، فكان أن وصفه بعضهم "مبعوث العناية الإلهية"، فيما كتب آخر عن "شمسه التي سطعت في باريس" على هامش زيارة الرئيس السبسي فرنسا. وجاءت زيارة الرئيس، أخيرا، إلى مدينة سوسة، لتثير جدلا لم يتوقف على خلفية ما رافق الحدث من تصرفاتٍ أعادت إلى الذاكرة ما كان يجري زمن الاستبداد، فقد تم تسخير تلاميذ المدارس للترحيب بالرئيس، وتحركت السلطة المحلية في المدينة لتعبئة كل الجهود من أجل إنجاز استقبال "تاريخي" لرئيس الجمهورية الذي لم يكلف نفسه عناء زيارة الأحياء الشعبية، واكتفى بافتتاح مشاريع تابعة لرجال أعمال من حزبه (نداء تونس). وقام الإعلام الرسمي بتقديم تغطية مبالغ فيها للزيارة بشكل انزاح فيه التلفزيون الحكومي عن دوره الإعلامي إلى الانخراط في لعبة دعائية فجة، تعوّد على ممارستها زمن حكم بن علي. وقد أثارت هذه الممارسات ردود أفعال مندّدة، بداية من بيان النقابة المهنية لمدرّسي التعليم الثانوي الذي استنكر "التصرف المشين وغير المسؤول من الأطراف الإدارية المسؤولة عنه، والذي سلب التلاميذ حقهم في الدراسة والتعلم، وتعريضهم إلى مخاطر محتملة، أثارت الفزع والحيرة في نفوس أوليائهم". مؤكدا على إدانته الشديدة "هذه المحاولة المبتذلة لتوظيف الناشئة والمؤسسة التربوية في التجاذبات السياسية، وانتهاك مبدأ تحييد الشأن التربوي، واستقلالية المؤسسات العمومية عن كل الصراعات السياسية". وفي السياق نفسه، دعت الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري إلى النأي بالمرفق العمومي عن التوظيف السياسي الضيق، حيث لاحظت أن القناة الرسمية بثت "ريبورتاجا اتسم بأسلوب دعائي، لم يحترم قواعد المهنة الصحافية، إذ ركز في مساحةٍ مهمةٍ منه على مظاهر الاحتفاء التي تذكّرنا بالتحشيد، وتسخير إمكانات المؤسسات العمومية في خدمة صورة الشخص". وعلى الرغم من تبريرات المتحدث باسم رئاسة الجمهورية ما جرى، كان واضحا أن الانتقاد الواسع في مواقع التواصل الاجتماعي للممارسات السلطوية التي رافقت زيارة رئيس الجمهورية تكشف عن حساسية عالية لدى الشارع التونسي بشأن إمكانية عودة أشكال الاستبداد، مهما كانت التبريرات التي يتم تسويقها للناس. فثنائية الجذب إلى الخلف، وحالة "النوستالجيا" لزمن الحاكم المطلق التي تظهر لدى بقايا النظام السابق، من سياسيين ومسؤولين وإعلاميين، يقابلها توجس وتوثب من الرأي العام الذي يمثله الجيل الجديد ووسائل إعلامه غير الرسمية، وهو مشهد أصبح معتادا بعد الثورة في تونس الجديدة.