مفارقات عجيبة يعرفها المشهد السياسي التونسي هذه الأيام، إذ تتراوح مواقف بعض رموزه من النقيض إلى النقيض، وهو الحال في ما يتعلق مثلاً بمصير رئيس الحكومة، يوسف الشاهد. وبينما تعرَّض رئيس حركة النهضة، راشد الغنوشي، منذ أغسطس/آب 2017، لحملة شرسة نتيجة موقفه المصرّ على ضرورة إعلان الشاهد عدم نيته الترشح لانتخابات الرئاسة في العام 2019، مع بقائه في منصبه حتى ذلك التاريخ، تعود اليوم قوى هاجمت الغنوشي على خلفية هذا الموقف، لتتبنى الرأي نفسه.
وفي أغسطس 2017، طلب الغنوشي علناً من الشاهد التأكيد أنه لن يترشح لانتخابات 2019، وأنه "ليس معنياً إلا بإدارة الشأن العام في تونس، خصوصاً الاقتصادي وتنظيم انتخابات بلدية ثم تشريعية ورئاسية". وأضاف الغنوشي، وقتها، أن التعديل الوزاري لا بد منه بالنسبة للحركة، مشيراً إلى وجود "مناصب شاغرة أصلاً ووزارات من دون وزراء"، حاصراً حق التعديل بالشاهد وحده. وبخصوص حكومة الشاهد وحملتها ضد الفساد، فقد أعرب رئيس حركة النهضة عن خوفه من أن تكون هذه الحكومة، أو رئيسها، أو بعض وزرائها، "يفكرون في 2019"، في إشارة للانتخابات الرئاسية، داعياً إياهم إلى أن "يبقوا أعينهم مركزة على مشاكل البلاد".
ويتذكّر الجميع كيف قامت الدنيا ولم تقعد بشأن تلك التصريحات، واعتبر كثيرون أن الغنوشي يصادر حقاً دستورياً ويريد أن يقطع الطريق أمام طموح سياسي شاب يبقى من حقه أن يترشح إلى أي انتخابات. لكن الغريب هو أن أغلب الأطراف، السياسية والاجتماعية، اليوم تطالب بأن تكون الحكومة الجديدة معنية ومتفرغة لتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بالكامل، وأن تتخلى عن أي حسابات سياسية انتخابية قد تكون لها تداعيات على طبيعة عملها وقراراتها. ويبدو أن الموقعين على وثيقة قرطاج الثانية (تضمنت الوثيقة برنامجاً إصلاحياً، يشمل المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويتضمن نحو مائة نقطة، أهمها التنصيص على عدم ترشح الحكومة التي ستتولى إدارة الفترة المقبلة للانتخابات الرئاسية والتشريعية) قد اتفقوا على هذا الأمر، ولكن أغلب أطرافها لم تعلن عن ذلك صراحة، ما دعا قيادات اتحاد الشغل، التي تطالب بتغيير عميق على الحكومة للخروج للعلن والتأكيد على هذا الشرط. وأكد القيادي بوعلي المباركي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أنه "لا بد أن تكون الحكومة المقبلة حكومة مهام محددة ولا تكون عينها على الانتخابات وعلى أحزابها"، مبيناً أنه "لا إشكال للاتحاد مع الأحزاب، لكن سيكون من واجب الشخصيات التي سيتم اختيارها إنجاح الفترة المقبلة، بعيداً عن الغايات الحزبية، ومن لديه تلك الغايات عليه أن ينسحب". وأضاف المباركي "نريد اليوم شخصيات وكفاءات في الحكومة قادرة على إنجاح ما تبقى من مسار، وأن تحسن الوضع في تونس وتهدأ من الاحتقان الاجتماعي، وهو ما تنص عليه وثيقة قرطاج 2، أي حكومة أعمال واضحة ومحددة".
ويبقى السؤال الذي يشغل التونسيين، هل يكون الشاهد رجل المرحلة الجديدة، وهل يقبل بتأجيل حلمه بالترشح للرئاسة إلى ما بعد 2019 ليبقى على رأس الحكومة؟ والسؤال الحقيقي المخفي، هل يقبل الآخرون بالشاهد وإن التزم بعدم الترشح لانتخابات 2019؟ معلومات "العربي الجديد" تؤكد أن الأطراف الحزبية الرئيسية لا ترغب ببقاء الشاهد. لكن الأمر ليس بهذه السهولة، فالعملية معقدة، دستورياً وسياسياً، إلى أبعد الحدود، ويمسك الشاهد فيها بكثير من الخيوط، فعملية إقالته مستحيلة، واللجوء للبرلمان لسحب الثقة منه معقد ويذكّر بسيناريو سلفه الحبيب الصيد، وقبوله الاستقالة عن طيب خاطر فيه مراهنة كبيرة على مستقبله السياسي، وعودته لحزبه "نداء تونس"، كما يروّج البعض، مسألة فيها من السلبيات أكثر من الإيجابيات، ولكن أغلب هذه السيناريوهات تبقى يبد الشاهد، إلا إذا أذعن لسبب ما وقبل ما يطرح أمامه من خيارات، أحلاها مر.
وحاول الشاهد إقناع خصومه بالتذكير بأن نتائجه الاقتصادية ليست بالكارثية كما يروّجون. وانتشرت، منذ أيام، الأرقام التي تؤكد ذلك، والتي تشير إلى أن حكومته حققت نسبة نمو بلغت 2.5 في المائة، وهي تنتظر موسماً سياحياً كبيراً، كما ارتفعت نسبة صادرات أكثر من قطاع إنتاجي. وذهب الشاهد يبحث عن دعم دولي بالاجتماع إلى سفراء الدول الكبيرة في تونس، ليخرج السفير الفرنسي، أوليفييه بوافر دارفور، مشيداً بهذه الحكومة وقدرتها على قيادة الإصلاحات الضرورية، وهو ما وجّه اليه انتقادات اتحاد الشغل التي اعتبرت أنه من العار أن يتدخل في شأن لا يعنيه، وكأنه لا يزال "المقيم العام الفرنسي في تونس"، وهو لقب كان يطلق زمن الاستعمار على ممثل الدولة الفرنسية في تونس. ولكن ليست هذه الصعوبة وحدها ما يعقد إطاحة الشاهد، فهناك أيضاً معضلة البحث عن خليفة له، تتفق جميع الأطراف حوله. عقدة ليست بالهامشية، خصوصاً مع اتساع الهوة بين الحليفين، "نداء تونس" و"النهضة"، بعد الانتخابات البلدية، وموافقة اتخاد الشغل ومنظمة رجال الأعمال أيضاً على شخصية قادرة على تحقيق الإصلاحات من دون المس بحقوق العمال وتحسين قدرتهم الشرائية، وعدم الرضوخ للمنظمات الدولية وإملاءاتها، وهي معادلات، كما يتضح، صعبة جداً في ظل أرقام تظهر استحالة تحسن أي شيء في المدى القريب والمتوسط. لكن يبدو أن الأمور الاقتصادية الحيوية، تأتي حالياً في المرتبة الثانية قبل الضرورات السياسية التي فرضتها نتائج الانتخابات المحلية من ناحية، ومسألة ولاء الشاهد من ناحية أخرى.