مثلما كان متوقعاً، شهد شهر سبتمبر/ أيلول الحالي عودة قوية للساحة السياسية التونسية، بدأت بصراع اختبار ميزان القوى بين مختلف مكوّناتها، ولم تقتصر هذه الصراعات على المعارضة والحكومة، وإنما شكّلت بشكل مستقل اختبارات مماثلة داخل الائتلاف الحاكم من جهة وداخل المعارضة من جهة أخرى.
وكان اختبار السبت الماضي هاماً جداً في نسج أولى ملامح الموسم السياسي الجديد، إذ نجحت المعارضة في إصرارها على الاحتجاج على قانون المصالحة، وتمكّنت من القيام بمسيراتها المختلفة على الرغم من إصرار الحكومة على رفضها في مناسبات متتالية، وهو ما يحفظ دائماً حرية التعبير على الرغم من المخاوف المعلنة من تراجعها. غير أن المعارضة نفسها خسرت أيضاً بفشلها في التوحّد حول القيام بتحرك مشترك، ما عزّز اختلافاتها، ولم تكن مسيراتها ناجحة جماهيرياً، بما أتاح لخصومها فرصة أخرى لإظهارها بمظهر القوى السياسية الضعيفة في الشارع التونسي.
غير أن اختبار السبت نفسه، أظهر مرة أخرى قدرة النخبة السياسية التونسية على حسم مشاكلها في اللحظات الأخيرة عن طريق التوافق، إذ بُدّدت كل المخاوف من مواجهة مباشرة بين الأمن والمعارضة. وكان لقاء زعيم "الجبهة الشعبية" حمة الهمامي بالرئيس التونسي الباجي قائد السبسي، يوم الجمعة، حاسماً في الاتفاق على إجراء المسيرات الاحتجاجية، ما وضع الحكومة التي أعلنت مرات عديدة أنها لن تسمح بها، في وضع حرج، ولكنه قدّم السبسي في موقف الباحث عن تمايز عن بقية أجهزة الدولة ومراكز قرارها، وهو ما سعى إلى تأكيده في مناسبات عديدة، حين أعلن مثلاً أنه لن يوقّع على قانون المجلس الأعلى للقضاء إذا كان مخالفاً للدستور، واستقبل قانونيين معارضين لمشروع قانون المصالحة.
إلا أن موقفه من مسيرات السبت ولقاءه الهمامي، أظهر أيضاً أنه الممسك الحقيقي بخيوط القرار السياسي في تونس، وأنه يحتفظ لنفسه بإدارة الشأن العام، خصوصاً إذا فشلت الحكومة والمعارضة في إيجاد حلول لمشاكلها المتعددة.
ولعلّ مبادرته الجديدة التي لم تلقَ الانتباه الكافي إعلامياً وسياسياً، تبرهن بشكل جديّ أنه أصبح يتولى قيادة البلاد فعلياً ويحسم مساراتها الكبرى. وتتمثّل المبادرة في إطلاق سلسلة من اللقاءات الخماسية التي تجمعه بكل من رئيس الحكومة الحبيب الصيد، ورئيس مجلس النواب محمد الناصر، والأمين العام لاتحاد الشغل حسين العباسي ورئيسة منظمة أرباب العمل، ما أصبح يُشكل بديلاً عن "الرباعي الراعي للحوار" الذي أدار الأزمة الكبيرة التي عرفتها تونس قبيل الانتخابات الماضية.
ومن أبرز نتائج هذه المبادرة توصّلها إلى حسم الخلافات الكبيرة بين الطرفين الاجتماعيين (النقابة ورجال الأعمال)، كما تمكّنت من حسم مسألة ترفيع الأجور، ولمّحت إلى إمكانية التوصل إلى هدنة اجتماعية لمدة عامين.
اقرأ أيضاً: "النهضة" تهاجم وزير الأوقاف: بدء الشقاق في الائتلاف الحاكم؟
وأظهرت الأحداث الأخيرة أن التحالف الحكومي تسوده بعض الهشاشة، إذ قفزت على السطح قضية المساجد وعزل الأئمة التي أخرجت حركة "النهضة" عن هدوئها المعتاد، ما أشار إلى أن "النهضة" قد تفقد صبرها أحياناً إذا أحسّت أنها مستهدفة في عمقها الحقيقي، ولكنها أرادت أيضاً، بحسب متابعين، أن تختبر وزنها داخل الائتلاف الحاكم، وقدرتها على تغيير بعض القرارات. وبالفعل تراجعت الحكومة عن عزل أحد أبرز أئمة مدينة صفاقس بعد حالة الاحتقان الشديدة التي عرفتها خلال الأسبوعين الماضيين، ما جعل المكتب التنفيذي لـ"النهضة" يقول، أول من أمس الأربعاء، إنه "يسجل بإيجابية تدخّل رئيس الحكومة لتهدئة الأوضاع".
ولا يمكن معرفة ما إذا كانت الحكومة ستتراجع عن عزل بعض الأئمة الآخرين، وأبرزهم وزير الأوقاف السابق في حكومة الترويكا نور الدين الخادمي، ولكن قواعد "النهضة" وعدداً كبيراً من قياداتها لم ينظروا إلى هذه القرارات بعين الرضا. وقال رئيس كتلة الحركة في البرلمان نور الدين البحيري، إن "هناك تصفية لكل من يشتبه أنه عمل سابقاً مع حركة النهضة، ووزارة الشؤون الدينية قامت بعزل أئمة معتدلين عوض استبعاد التكفيريين".
غير أن قيادات "النهضة" خفّفت من حدة الاحتقان الذي شهده الأسبوع الماضي بينها وبين التحالف الحكومي، وكان اجتماع الثلاثاء الدوري الذي انعقد في مقر حزب "نداء تونس" فرصة لتلطيف الأجواء، إذ اعتبر البحيري في تصريح صحافي، أن "زيارة رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي إلى مقر حركة نداء تونس دليل على نجاح التجربة التونسية وعلى أن عهد الإقصاء قد ولّى"، في حين قال الغنوشي نفسه إنه سعيد بزيارة مقر الحزب الذي "أسّسه صديقي الباجي قائد السبسي".
وخلص اجتماع أحزاب التحالف إلى تشكيل لجنة للنظر في مشروع قانون المصالحة، واتفقت على أن المشروع يحتاج إلى أوسع وفاق ممكن بين جميع الأحزاب والمنظمات. وتم الحديث حول إمكانية تغيير اسم المشروع وتعديل عدد من فصوله حتى لا يسقط بسبب عدم دستوريته، ويخفف من حدة الهجومات التي يلقاها من المعارضة. غير أن هذا "اللطف النهضوي" لا يخفي أن الحركة بدأت تغيّر في أسلوب تعاملها داخل الائتلاف الحاكم، وربما يؤشر أيضاً إلى أن صبرها على تمثيلها المحدود داخله بدأ ينفد، خصوصاً داخل قواعدها، وهو ما نقلته مرات عديدة إلى الأطراف المعنية، ومن بينها السبسي.
من جهة أخرى، يبدو أن "الجبهة الشعبية" اليسارية تفكر في طرح مشروع مصالحة بديل، لم تتضح تفاصيله بعد، ولكنه قد يخلط الأوراق ويضع الجميع أمام حتمية البحث عن صيغ جديدة للمصالحة.
وفي مجال آخر، أعلنت وزارة الداخلية التونسية أنها قررت عزل 110 من قوات الأمن للاشتباه في علاقتهم بتنظيمات إرهابية، حسبما أفاد به المكلف بالإعلام في الداخلية وليد اللوقيني، في تصريحات صحافية. وأضاف اللوقيني أن العناصر الأمنية المعزولة تنتمي إلى أجهزة مختلفة في الشرطة والحرس الوطني والجيش والديوانة، مؤكداً أن إقالتهم جاءت إثر ورود معلومات وشكوك حول انتمائهم ودعمهم للتنظيمات الإرهابية، معلناً أن "التحقيقات في هذا الموضوع انطلقت منذ بداية العام، ويبدو أن بعض المعزولين أفشوا لإرهابيين مفترضين معلومات حول أماكن تمركز دوريات أمنية مقابل رشوة".
وتُشكّل هذه الضربة القوية خطوة هامة على مستوى إصلاح وزارة الداخلية التي بقيت محل تجاذبات منذ الثورة، ولكنها تعكس في الوقت نفسه خطورة واضحة بسبب هذا الاختراق. كما أن الداخلية التي نجحت في امتحان مسيرة السبت، بحسب رأي المعارضة، تحاول إثبات استقلاليتها، خصوصاً بعد الانتقادات الكبيرة التي وُجّهت لها بسبب الاعتداءات على متظاهرين ضد قانون المصالحة في مدن تونسية عديدة.
ويبدو المشهد التونسي حامياً على جهات متعددة، ويؤشر إلى امتحانات قريبة أخرى، مع ما تشهده كل الأحزاب من تجاذبات داخلها بسبب مؤتمراتها القريبة نهاية هذا العام، وبسبب التحديات المطروحة وطنياً.
اقرأ أيضاً: رافضو "المصالحة" في تونس: تظاهراتنا نجحت رغم الترهيب والتخويف