تساهم التصريحات السياسيّة الأخيرة، بعد انتهاء الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسيّة، في تغذية نعرات مناطقيّة وتأجيج تحرّكات شعبيّة في الجنوب التونسي، وسط خشية المراقبين والمسؤولين من أحداث قد تهدّد الوحدة الوطنيّة وتُفشل بلوغ المسار الانتخابي خواتيمه.
وتأتي هذه التحذيرات، على ضوء تحرّكات شعبيّة واسعة، انطلقت من مدينة مدنين (الجنوب)، وفي سيدي مخلوف (قريتا الصغيرة والعزيزة)، احتجاجاً على تصريحات لزعيم حركة "نداء تونس"، المرشّح الرئاسي الباجي قايد السبسي، يوم الثلاثاء الماضي، وصف فيها ناخبي منافسه للرئاسة، الرئيس الحالي المنصف المرزوقي، بـ"التكفيريين والمتشددين". ويرى المتظاهرون والمحتجون في هذه التصريحات محاولة لتقسيم الشعب التونسي، باعتبار أنّ معظم الناخبين الذين أدلوا بأصواتهم للمرزوقي في الدورة الرئاسيّة الأولى هم من أبناء الجنوب.
وفي موازاة إقدام متظاهرين في مدينة سيدي مخلوف على تمزيق لافتة لحركة "نداء تونس" معلّقة على جدران مقرّه المحلي، رافعين شعارات عدّة، بينها: "أوفياء أوفياء، لا تجمّع ولا نداء"، و"خبز وماء والباجي لا"، شهدت مدينتا بن قردان وجرجيس تظاهرات مماثلة. كما جابت مسيرات، يوم السبت الماضي، العاصمة تونس وبعض المناطق، أكّدت رفض خطاب التقسيم بين الجنوب والشمال، داعية إلى التهدئة والوحدة الوطنية، تحت شعار: "لا شمال لا جنوب، تونس في القلوب".
وعلى الرغم من النجاح الذي حقّقته تونس في الانتخابات التشريعيّة، في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، والدورة الأولى من الانتخابات الرئاسيّة، الشهر الماضي، بانتظار استكمال دورة الانتخابات الثانية أواخر الشهر الحالي، لكنّ التحرّكات الشعبيّة التي عرفتها بعض المناطق في الجنوب التونسي، دفعت عدداً من مكوّنات المجتمع التونسي والمنظمات والشخصيات الوطنية إلى إطلاق صافرة الإنذار، مطالبين بضرورة التحلّي باليقظة وتغليب مصلحة الوطن.
وفي سياق متّصل، يقول رئيس "الرابطة التونسيّة للمواطنة"، شوقي الطبيب، لـ"العربي الجديد"، إنّه "لا يجب اللعب بالنار"، ويحذّر من أنّ "إثارة النعرات المناطقيّة ستقود البلاد إلى منزلق خطير"، مؤكّداً أن "المجتمع المدني أطلق صيحة فزع، من النار التي قد تحرق الجميع".
ويبدي الطبيب أسفه "لأننا كنّا نعتقد أنّ السياسيين بلغوا مستوى معيناً من النضج السياسي ومن التحصين، ولكن يبدو أنّه يجب علينا أن نذكّرهم في كلّ مرة ببعض الثوابث"، مشدداً على وجوب "عدم تغليب المصالح الحزبيّة والشخصيّة على مصلحة البلاد".
وكانت الرابطة التونسيّة للمواطنة قد وقّعت مع مجموعة من المنظمات ومكوّنات المجتمع التونسي، بياناً تضمن "التنديد بالدعوات الصريحة أو المبطّنَة إلى تقسيم الشعب الواحد وتمزيق نسيجه المتآلف وتفتيت نواته الوطنية الصلبة وتشظيتها تحت عناوين سياسيّة أو عقائديّة أو مذهبيّة أو قبليّة بائسة".
ويرى الموقّعون على البيان، أنّ "هذه الانحرافات هي أخطر ما يُمكن أنْ يشهده المسار الانتخابي، ومِن الواجب التصدّي لها بالقانون من قِبَل الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، وباليقظة والمراقبة من قِبَل كل الفاعلين السياسيين والاجتماعيين والاقتصاديين والمدنيين".
ولم يتأخر رئيس "حركة النهضة" راشد الغنوشي، في الدعوة إلى "التهدئة وتجنّب كلّ مظاهر الاحتشاد"، وطالب أنصار المرشّحين للانتخابات، في كلمة ألقاها قبل 3 أيام، "بالتعقّل والابتعاد عن التوتر"، مشيراً إلى أنّ "العالم ينظر إلى تونس بإكبار وإعجاب، فلا تفسدوا الانتخابات".
وفي محاولة منه لتهدئة الوضع، شدّد السبسي خلال زيارته قبل يومين، حي الحلفاوين، وسط العاصمة، على أنّه "لا فرق بين الشمال والجنوب التونسي"، مضيفاً: "لا تستمعوا إلى دعاة تقسيم التونسيين ونشر البغضاء بينهم، ونحن أمّة واحدة".
وفي موازاة تأكيد السبسي "الحاجة إلى التضامن ووضع اليد في اليد من أجل إخراج تونس من المأزق الذي تعيشه"، لم يتردّد المرزوقي في دعوة التونسيين إلى "العمل على الوحدة الوطنية وتجنّب محاولات التقسيم؛ لأن الوحدة الوطنية خط أحمر". وفي حين يرى أنّه "من حق التونسيين التظاهر السلمي"، ينبّه في الوقت ذاته، من "خطورة الانزلاق إلى العنف مهما كان نوعه".
من جهته، يحذّر المجلس الإسلامي الأعلى، من "خطورة الخطابات التحقيريّة أو التقسيميّة، على أسس مناطقيّة أو أيديولوجيّة"، مؤكّداً "ضرورة الحفاظ على الوحدة الوطنية التي تُعدّ من الخصائص المميزة لتونس عبر تاريخها الطويل". ويُشدّد، وفق ما أورده في بيان صادر عنه يوم السبت الماضي، على أنّ "هذه الخطابات والنزاعات التحريضيّة تتناقض كلياً مع ما توافق عليه التونسيون في دستورهم الجديد، الذي حسم مسألة الهويّة ونمط المجتمع وأقرّ الحريّات وكفل الحقوق، وفي مقدمتها حقّ الاختلاف والاختيار وحرية التفكير والتعبير في إطار القانون".
ويدين حزب العمال، على لسان القيادي فيه علي الجلولي، لـ"العربي الجديد"، أي "دعوة إلى العنف أو إلى الفتنة"، لافتاً إلى "أنّنا نعرف أنّ هناك جهات سياسيّة معروفة بعلاقتها بالعنف، وهي التي تدفع حالياً لتحويل التحرّكات إلى أعمال عنيفة". ويذكّر بأنّ "الشعب التونسي موحّد ولا يوجد فيه أي مشاكل عرقيّة أو عقائديّة أو مناطقيّة"، محذراً "هؤلاء من هذا التوظيف".
ويعتبر الجلولي أنّ "الصراع السياسي ينبغي أن يكون بين برامج ومشاريع، وبطرق سلميّة بعيداً عن العنف"، محذّراً "الشعب التونسي من بعض المؤامرات التي تقف وراء التجييش". ويقول: "يريدون جرّ الثورة إلى وضع شبيه بسورية وليبيا"، معتبراً أنّ "وراء هذه الدعوات أطرافاً إقليميّة وخارجيّة، لديها أجندات وتعمل لتشويه المسار الطبيعي والنموذجي والذي بدأ يقترب منه الشعب التونسي، وتشويه الثورة".
ويحمّل رئيس الجمعيّة التونسيّة من أجل "نزاهة وديمقراطية الانتخابات"، معز بوراوي، الأطراف السياسيّة المعنيّة بالانتخابات، مسؤوليّة تشنّج الخطابات والتصريحات، التي "من شأنها فتح الأبواب أمام تزايد موجة العنف"، مناشداً المرشّحين "دعوة أنصارهم إلى التريّث، والابتعاد عن كل ما من شأنه شحن الأجواء العامة، بما يوثّر سلباً على سلوك الناخب وبناء الثقة بين المواطن والطبقة السياسية".
وفي سياق متّصل، يوضح الباحث شهاب اليحياوي لـ"العربي الجديد"، أنّ "خطاب المرشحين للدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية، بلغ مستوى مبالغاً فيه، من التشنّج الانفعالي وتراجعاً رهيباً لمنسوب العقلانيّة والذكاء السياسي". ويؤكّد أنّ "منسوب التجاوزات يكاد يكون نفسه لدى المرشحين، وإن كانت أسبابه تختلف من مرشّح إلى آخر".
ويعرب عن اعتقاده بأنّ تشنّج الخطاب السياسي للسبسي، "قد يكون مرتبطاً بحسابات غير مدروسة، لم تعتبر المرزوقي نداً منافساً له على الرئاسة، مع ترجيحه الفوز بأغلبيّة مريحة ومنذ الدور الأول، كما أنّ نشوة التفوّق في الانتخابات التشريعيّة على غريمه، أي حركة النهضة، خوّله منطقياً البناء عليها، لتوقّع الفوز الساحق في الرئاسيات، خصوصاً بعد إعلان النهضة وقوفها على مسافة واحدة من كل المرشحين".
ويشدّد اليحياوي على أنّ "مستوى خطاب المتنافسين وضع البلاد في حقل ألغام، من شأنها أن تحيي أو تقوّي أو تخلق نعرات مناطقيّة وقبليّة وعشائريّة ومذهبيّة قد تقود إلى مناخ اجتماعي متشنّج، يتمظهر في احتجاجات واحتجاجات مضادة، وتظاهرة مساندة وأخرى مندّدة، وتصادم مع أنصار المنافس الآخر أو مع الأمن، واستنزاف طاقاته وإلهائه عن هدفه المركزي المتمثّل في مقاومة الإرهاب، والبقاء على أهبّة الاستعداد لمنع أيّ استهداف لمؤسّسات الدولة أو الأفراد".