تلاحقت التحذيرات من مغبة تأجيل الانتخابات المحلية في تونس، مرة أخرى، بسبب عدم المصادقة على القانون المتعلق بها، نتيجة خلافات عميقة بين النواب حول عدد من النقاط، أهمها اقتراح يقضي بالسماح للقوات الحاملة للسلاح بالمشاركة في الانتخابات.
وبعدما كان يُفترض أن تجرى هذه الانتخابات في 2015 ثم في 2016، تأجلت مرة أخرى إلى عام 2017، وسط مخاوف من إمكانية تأجيلها مجدداً. أمر وصفه رئيس هيئة الانتخابات، شفيق صرصار، بالكارثي لأنه سيهدد بقية الاستحقاقات الانتخابية. وعلى الرغم من أن قضية التأجيل في حد ذاتها تعتبر خدمة لبعض الأحزاب التي لم تتهيأ بعد لهذا الموعد، وتحاول أن تتخلص من بعض مشاكلها الداخلية، إلا أن سبب الخلاف الحالي حول إشراك الجيش والشرطة والدرك والجمارك في الانتخابات، يشكل قضية مصيرية، قد تعرض البلاد لمخاطر لعل أبرزها إقحام المؤسستين الأمنية والعسكرية في الصراعات السياسية، وإخراج الجيش من حياده الذي رافقه منذ تأسيسه. وكان العامل الحاسم في نجاح الثورة التونسية، حين رفض الجيش دعم السلطة القائمة، وحين لم يتجاوب مع مطالب متكررة طيلة السنوات الماضية بالتدخل واستلام السلطة، مع أن الأمر كان ممكناً أكثر من مرة.
وانضم إلى الحامدي العميد المتقاعد من الجيش، الخبير العسكري، مختار بن نصر، الذي اعتبر أيضاً، في تصريحات صحافية، أنه إذا تمّت الموافقة على مشاركة الأمنيين والعسكريين في الانتخابات فإن ذلك يعني فتح الباب لتسييس المؤسستين العسكرية والأمنية اللتين طالما كانتا محايدتين وإحداث الفوضى في البلاد. وأكد أن الدستور التونسي ينص على ضرورة أن تعمل هذه المؤسسات الجمهورية في كنف الانضباط وبالحياد التام، مشيراً إلى أن "الحياد التام" يعني ألا يكون لها مشاغل سياسية ولا انتماءات سياسية ولا تنشغل بالانتخابات، وفق قوله.
وتوقف بن نصر عند تبريرات الداعين إلى ذلك، الذين يعتمدون على مبدأ المساواة بين المواطنين، واعتبار رجل الشرطة والجندي مواطنين كاملي الحقوق مثل المدنيين. ولفت إلى أن القوانين تمنع العسكريين والأمنيين من حقوق أخرى يتمتع بها المواطن العادي مثل حق التنظيم في الجمعيات وحق النشر وحق الاجتماعات السياسية، وحق الانتماء إلى حزب سياسي. ويخضع لعدد من حالات التضييق القانوني مثل الزواج والسفر وغيرها.
وتزايدت هذه المخاوف، من العسكريين خصوصاً، إذ عبّر عدد كبير منهم عن رفضهم لهذا التوجه خلال ندوة نظمتها جمعية قدماء خريجي معهد الدفاع الوطني. وحذّر المدير العام السابق للأمن العسكري والجمارك، محمد المؤدب، من مخاطر إقحام ثكنات الأسلاك المسلحة في النزاعات الانتخابية، كأن تصبح ثكنة من الثكنات موالية لحزب "نداء تونس"، انتخابياً وسياسياً، وأخرى في الساحل أو بنزرت تابعة لحزب "النهضة" وثالثة في الساحل أو الجنوب تابعة لأحد أحزاب المعارضة.
لكن الخوف الكبير يكمن في هذا التحول الجذري الذي يمكن أن يعصف بالمؤسسة العسكرية، ويخرج قادتها وجنودها من حيادهم التاريخي، ويقحمهم في لعبة السياسة والعلاقات والصفقات، ويكشف ميولهم وانتماءاتهم الصامتة. وهو ما قد يقود، مع الوقت، إلى رغبات جديدة، أقلّها التقرب من السلطة، وأقصاها استلام السلطة، لا سيما مع مرور تونس بوضع انتقالي هش، وفي ظل وجود رغبات حقيقية لدى عدد من التونسيين برؤية الجيش في السلطة.
وأشار المدافعون عن عدم إشراك الجيش في الانتخابات، إلى مثال الحق النقابي الذي منح لقوات الشرطة والجمارك والدرك. وذكّروا بعدد من الأحداث التي قامت بها هذه النقابات الأمنية، ومن بينها الحادثة الشهيرة المتمثّلة في اقتحام هذه النقابات لمقر رئيس الحكومة بالقصبة، ما خلّف حالة من الذهول في صفوف التونسيين.
وفيما تلتزم المؤسسة العسكرية الصمت، إلى حد الآن، باستثناء تصريحات ومواقف لقيادات سابقة، تدافع النقابات الأمنية بقوة عن حقها في الانتخابات، وتصر على ذلك في كل فضاءات النقاش. وأعرب مراقبون عن خشيتهم من أن تسقط هذه النقابات في فخ التأثير الحزبي، وتتزايد خلافاتها (القائمة أصلاً بشأن عدة قضايا)، وتصبح لعبة بأيدي من يغريها أكثر، وربما من يمنحها وعوداً وحقوقاً أكثر، ما قد يحول جزءاً من الحملات الانتخابية إلى رهانات جديدة حول المؤسسات الأمنية (الجمارك والشرطة والدرك) ويسهم في تقسيمها، علماً بأنها لم تتعاف بعد بالشكل الكامل. وتتزايد المخاوف أيضاً بسبب السلطة المعنوية الكبيرة التي يتمتع بها رجل الشرطة والدرك في بعض الجهات الداخلية، وإمكانية تأثيره على الناخبين، ما قد يحوّله إلى سلطة انتخابية حقيقية في توجيه الرأي العام.
ورأى حقوقيون وسياسيون مدافعون عن حق هؤلاء في الانتخابات أن دولاً عديدة متقدمة تمنحهم هذا الحق، من بينها الولايات المتحدة وفرنسا. لكن العميد بن نصر ردّ بأنّ أميركا وفرنسا أعطت الأمنيين والعسكريين حق الانتخاب بعد الحرب العالمية الثانية أي بعد قرن ونصف من نضج التجربة الديمقراطية. وأكد أن كل الجيوش التي يتم تسييسها تفشل، ثم تقوم بالانقلاب على السلطة وعلى الحكم، مثل ما حصل في مصر والسودان، منبهاً من أن الأمنيين والعسكريين يحملون السلاح ويُمكن لهذا السلاح أنّ يُوجّه لحماية طرف حزبي ضد طرف آخر، عوضاً عن حماية البلاد والدفاع عنها.
غير أن هذا الأمر قد ينقلب على الجميع، إذ ستسارع كل الأحزاب، وبكل إمكانياتها، لإغراء هذا المخزون الانتخابي الهام من الأصوات، وما يمثله من قوة الرمزية. وفيما طالبت "النهضة" بتأجيل النقاش في شأن اقتراح إشراك حاملي السلاح بالانتخابات، خمس سنوات أخرى على الأقل، دعا آخرون إلى أن يقتصر الأمر على الانتخابات المحلية، نظراً لحساسية الانتخابات التشريعية والرئاسية. في المقابل، طالب مؤيدو القانون بإقراره بشكل متكامل، دون انتظار ودون اجتزاء. وفي ظل هذا الانقسام، يبقى الاقتراح مؤجلاً إلى حين التوصل إلى وفاق حوله، وهو ما سيحسم أولاً، كما درجت العادة، خارج البرلمان.
تجدر الإشارة إلى أن الجيش التونسي يحتل المرتبة 58 عالمياً والسابع عربياً من حيث تصنيف أقوى الجيوش في العالم، لعام 2015، ومن حيث القدرة القتالية والتجهيزات، بحسب ما نشره موقع "غلوبال فاير باور" المتخصص في الشؤون الدفاعية. وذكر الموقع أن تعداد جنود الجيش التونسي وصل إلى 40 ألفا و500 جندي، فيما ضم الاحتياط 12 ألف جندي.
وأشارت أرقام قدمتها نقابات الأمن في تونس إلى أن عدد قوات الأمن في تونس يبلغ حوالي 70 ألفاً. وانتدبت وزارة الداخلية التونسية 25 ألف عنصر أمن جديد بعد الثورة، كما تمت زيادة ميزانية الوزارة بنسبة 60 بالمائة، وفق تقرير "الإصلاح والاستراتيجية الأمنية في تونس" الذي نشرته مجموعة الأزمات الدولية في يوليو/تموز من العام الماضي.