تونس: ماذا عن موقع الجبهة الشعبية؟

03 يونيو 2016
+ الخط -
أصبح الحلف الجامع بين حزبي النهضة ونداء تونس يتأكد يوماً بعد يوم، وقد جاء مؤتمر "النهضة"، أخيراً، والحضور المميز لرئيس البلاد الباجي قائد السبسي، والثناء الذي حظي به من قيادة حركة (وحزب) النهضة وجمهورها، ليثبت عمق الحلف بين الطرفين، في إطار المصالح المتبادلة بين القوتين السياسيتين الأكبر في البلاد.
وفي المقابل، لوحظ غياب الجبهة الشعبية عن المؤتمر في إطار القطيعة المعلنة التي لا تخفي الجبهة أنها تعتمدها سياسةً واضحةً ضد حزب النهضة، بوصفه خصماً سياسياً لا يمكن التعامل معه، فما بالك أن يكون حليفاً أو حتى محاوراً.
غير أن موقف القطيعة الذي تفرضه الجبهة على "النهضة"، وفي الوقت نفسه علاقتها المتوترة مع باقي القوى، مثل حراك شعب المواطنين والتكتل من أجل العمل والحريات، إذا أضفنا إليها حالة الجفاء التي تصدر عن حزب نداء تونس تجاهها قد تجعل الحصيلة النهائية للجبهة حالة من العزلة التي فرضتها على نفسها في علاقتها بقوى السلطة وقوى المعارضة على السواء. وفي محاولةٍ لكسر هذه العزلة، أصدرت الجبهة، إثر ندوتها الوطنية الثالثة، ما سمّتها "مبادرة من أجل الإنقاذ والبناء"، وتضمنت تشخيصاً للوضع السياسي الحالي، انتهت إلى القول إن البلاد "تعيش وضعاً كارثياً وأزمة حكمٍ شاملة، لا يوجد في الواقع ما يؤشّر إلى إمكانيّة تجاوزها في المدى المنظور". وحمّلت الجبهة الشعبية كل أوزار المرحلة "للرباعي الحاكم"، وقدّمت، في خاتمة مبادرتها، جملة من المقترحات بشأن تفعيل مسار العدالة الانتقالية ومحاربة الفساد والاستعداد للانتخابات البلدية.
ما يمكن ملاحظته حول المبادرة جملة من النقاط الأساسية، منها أن ما طرحته الجبهة يظل ضمن دائرة العموميات أو الشعارات، وليست مقترحات فعلية قابلة للتنفيذ، فهي ليست برنامج عمل مرحلي لائتلافٍ حزبيٍّ يطمح للوصول إلى السلطة، وإلا ما معنى مقترح من نوع "العمل على تكريس الدستور في مؤسسات وتشريعات ديمقراطية، ومواصلة الدفاع عن الحريات الفردية والعامّة، بما في ذلك الحرية النقابية، وقيم المواطنة والمساواة"، أو الحديث عن حقوق المرأة والطفل، وهذه ليست من قبيل المقترحات العملية، بقدر ما هي شعارات عامة، ترفعها جميع الأحزاب، بما فيها أحزاب السلطة.
ومن ناحية أخرى، لا يتوافق حديث الجبهة عن ضرورة الاستعداد للانتخابات البلدية "بما
يضمن تعميق المسار الديمقراطي، ويجنّب البلاد احتكار مكوّنات الائتلاف اليميني الرجعي للحياة السياسية وعودة منظومة الاستبداد"، مع منطق التصنيفات الذي تعتمده الجبهة الشعبية، من حيث إعلانها الواضح عن التواصل مع جميع الأحزاب، ما عدا أحزاب الترويكا السابقة، ما يعني ضمناً أن الجبهة تستثني حزبي حراك شعب المواطنين والتكتل من أجل العمل والحريات. وفي المقابل، لا تجد غضاضةً في التعاون مع أحزابٍ وصفتها باليمينية، وحمّلتها سابقاً كل أسباب الفشل، ونعني بها "آفاق تونس" و"نداء تونس" والاتحاد الوطني الحر، وهذا ما يكشف عن تناقضٍ في الخطاب، وعدم وضوح طبيعة المنهج الذي تعتمده الجبهة، في مقاربتها السياسية لشركائها في العمل الحزبي والوطن.
وإذا كان من المفهوم، جزئياً، سبب إعلان الجبهة الشعبية مقاطعتها "النهضة"، وعداءها الحاد لها، لأسباب أيديولوجية أساساً، فإن منطق مقاطعتها حراك شعب المواطنين وحزب التكتل يظل مطبوعاً بنوع من المراهقة السياسية ليس أكثر، خصوصاً مع وجود تحالفٍ معلن بين "النهضة" و"نداء تونس"، ربما يفضي إلى حلف انتخابي في المحليات المقبلة، وهو ما كان يفترض بالجبهة البحث عن تحالفاتٍ مع قوى المعارضة الأخرى خارج السلطة، وتناهض سياسات الرباعي الحاكم حالياً، وليس استجداء حزب نداء تونس من أجل استعادة ود مفقودٍ، وخصوصاً أن الأخير أصبحت توجهاته معلنة وواضحة، في رفض التقارب مع القوى اليسارية التي تتشكل منها الجبهة، باعتبار عدم وجود قواسم مشتركة بينها، سواء في البرامج أو التوجهات.
وربما يمكن تفسير هذا السلوك السياسي للجبهة برغبتها الشديدة في عزل حركة النهضة، وكل من حالفها سابقاً، غير أن واقع الأمور يقول إن القوى الأخرى جميعها تعلن عن رغبتها في التقارب انتخابياً مع حزب النهضة، ليقينها أن الحكم في تونس في المراحل المقبلة لا يمكن أن يستقر إلا بتحالفاتٍ واسعةٍ تضم القوى الكبرى، والتي تمثل "النهضة" أهمها. فهل يعني هذا أن الجبهة الشعبية تعيد الوقوع في المطب السياسي نفسه الذي وقعت فيه في أثناء الانتخابات السابقة سنة 2014، عندما دعت إلى قطع الطريق على المرشح المنصف المرزوقي، على أمل أن تتقارب مع حزب نداء تونس والرئيس الباجي قائد السبسي، لتجد نفسها، في خاتمة المطاف، مُقصاةً من التشكيل الحكومي الذي أعلنه الحبيب الصيد، بل ولتشهد تشكل حلفٍ متين بين "النداء" و"النهضة"، ولتبقى هي خارج المربع السلطوي، وفي الوقت نفسه، في خصومةٍ مع أبرز أحزاب المعارضة وناشطيها.
تشكل المشهد السياسي الحالي في تونس من خلال تحالف ثنائي قوي (نداء/ نهضة)، وفي الوقت نفسه، تقابله حالة فراغ سياسي لدى قوى المعارضة التي لا زال بعضها يلوك شعارات الأيديولوجيا، وعاجزاً عن تقديم البدائل، أو التأثير في الرأي العام، وهو أمر لا يخدم العمل الحزبي، ويفضي إلى حالةٍ من الجمود التي ينبغي مجاوزتها، من خلال ظهور قطبٍ سياسيٍّ آخر، قادر على المنافسة، وعلى فرض حضوره على الأرض.
B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.