تونس: في الاستحقاق الانتخابي والاحتقان اللغوي

07 ديسمبر 2014

من تظاهرات الثورة التونسيّة (4 يناير/2011/أ.ف.ب)

+ الخط -

من بين مكاسب التونسيين بعد الثورة صوغهم دستوراً ديمقراطياً توافقياً، وتمتعهم بحرية التعبير، واختيارهم حكّامهم في تمام الحريّة. وكانت الانتخابات الرئاسية، في دورها الأول (23 نوفمبر/ تشرين الثاني 2014)، فرصة تاريخية لتكريس منطق سيادة الشعب نفسه، وامتلاكه الإرادة في اختيار مَن يريد من المرشحين الـ27 ليتولى مهمة قيادة الجمهورية، وقد شارك المواطنون بكثافة في الاستحقاق الانتخابي (62.9٪ من مجموع الناخبين). وجاءت النتائج على غير العادة مخبرة بعدم استئثار مرشح بعينه بأغلبية الأصوات، فقد ولّى عهد الرئيس الفائز بما يزيد على 90%. وظهر أن التونسيين لم يكونوا على رأي واحد، في اختيار مَن يقودهم في المرحلة المقبلة، وباح الدور الأول بصعود شخصيتين إلى الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية، هما الباجي قائد السبسي (88 عاماً)، الفائز بالمرتبة الأولى بنسبة 39.46٪ من الأصوات، ومحمد منصف المرزوقي (69عاماً)، الذي حاز 33.43٪ من مجموع أصوات الناخبين، ولم يتجاوز الفارق بين المرشحين حدود الست نقاط، وهو ما دلّ على نزاهة العملية الانتخابية، وعلى عدم اصطفاف التونسيين حول شخص محدد، بما يشير إلى تسليمهم بالتعددية بديلاً عن الأحادية المقيتة.

ولم يدم شعور المواطنين بالارتياح، لأدائهم الواجب الانتخابي في كنف الشفافية والحرية طويلاً، فقد جاءت تصريحات الفائزين في الدور الأول، وبيانات بعض أنصارهما، غير مطمئنة أحياناً. بل ذهبت إلى حد إدانة الناخب، لاختياره هذا المرشح أو ذاك، حتى وجد المواطن التونسي نفسه ضحية صوته. وكانت البداية مع الباجي قائد السبسي الذي علّق على نتائج الانتخابات، في تصريح أدلى به للمذيع جون جاك بوردان، في إذاعة مونتي كارلو، قائلاً إن الذين ساندوا المرزوقي وصوّتوا له هم السلفيون الجهاديون وروابط حماية الثورة التي وصفها بـ"الأطراف العنيفة"، مضيفاً أنه "مع الأسف، سيكون هناك انقسام، الإسلاميون من جهة، ومن جهة ثانية جميع الديمقراطيين وغير الإسلاميين". ويقوم هذا التوصيف للسلوك الانتخابي على اعتبار الذين أيدوا المرزوقي (مليون و92 ألفاً) متطرفين، وماضويين، وهو حكم معياري، ورد على جهة الإطلاق، وجعل كل الذين ساندوا المرشح المنافس في سلة واحدة، عنوانها الكبير "السلفية والتطرف". وغاب عن ذهن السبسي أنه لا توجد خارطة إحصائية، تفصيلية، صادرة عن جهات موثوقة عن ميول أنصار الرئيس الحالي، وتوجهاتهم الفكرية والثقافية. وأغلب الظن أنهم فسيفساء من المجتمع التونسي، فمنهم المتأدلج، ومنهم غير المتأدلج، ومنهم الماضوي، ومنهم الحداثي، ومنهم المتديّن وغير المتديّن، ومنهم المتحرّر، ومنهم المحافظ، والمتحزّب، وغير المتحزّب، ولا يمكن إدراجهم تحت يافطة أيديولوجية واحدة. كما أن تصنيف الناخبين صنفين، إسلاميين وديمقراطيين، غير سليم، ويؤدي إلى تقسيم التونسيين على أساس الهوية الأيديولوجية تقسيماً يغذي أسباب الاستقطاب والتنافي بين المواطنين. أمّا احتكار الديمقراطية ونفيها عن المخالف، فأمر غير منطقي، إذ احتكم جموع التونسيين إلى الديمقراطية، بقبولهم الانتخاب بديلاً عن الانقلاب، وتوجههم إلى صناديق الاقتراع، وتسليمهم بضرورة إقامة أركان الدولة المدنية التعددية.

وفي سياق العنف اللفظي، نعتت أستاذة جامعية محسوبة على "نداء تونس" أنصار المرزوقي بالفضلات، وأنتج هذا التصعيد اللغوي من الباجي وأتباعه حالة من الاحتقان الاجتماعي، فاللغة ذات قوة تأثيرية وطاقة تحويلية، تأخذ الناس من حال إلى حال، ومن فعل إلى فعل، فنزل الناس إلى الشوارع، معبّرين عن استيائهم من تصريحات السبسي وأتباعه، محتجّين بأنهم أحرار في انتخاب مَن يريدون، وأنهم مدنيون لا إرهابيون، واختاروا مرشحهم ترجيحاً لبرنامجهم السياسي، ولثقتهم في وعوده ووعيهم بسيرته في الدفاع عن حقوق الإنسان. وكتب عبد المنعم مبروكي (تونسي، مقيم في واشنطن)، على صفحته في "فيسبوك": "أعيش في قلب الحداثة الغربية وأمارسها، وأعشق الانفتاح وأكره الانغلاق، وأستعذب شرب الخمرة، وانتخبت المرزوقي لأنه حقوقي، وسيضمن حقي في الاختلاف". أما فيدرا مطهري، فكتبت على حائطها، بلسان فرنسي: "التصويت للمرزوقي ليس حباً في شخصه، بل من أجل تكريس الديمقراطية، والمحافظة على مكتسبات الثورة"، في حين قالت هدى إدريس (أستاذة جامعية): "أنا حاصلة على الدكتوراه، أتكلم أربع لغات، تعلّمت في الجامعات التونسية، وأحب السينما والمسرح وأعشق السفر (...)، لست سلفية، وانتخبت المرزوقي لثقتي في برنامجه الانتخابي الحداثي". من هنا، فإن المواطنين يرون أنهم، إذ ينتخبون مَن ينتخبون، يمارسون حريتهم في الاختيار، ويعتبرون الانتخاب حقاً وواجباً يعلو عن الإدانة والمصادرة.

وفي المقابل، لم تخلُ حملة منصف المرزوقي من تجاوزات، واحتقان لغوي يستفزّ الطرف المنافس ومؤيديه، فقد تواترت في صفحات المرزوقيين وتصريحاتهم عبارات تصبّ في تسمية الباجي قائد السبسي بأسماء ونعوت قبيحة من قبيل "ديكتاتور"، و"ديناصور"، و"مومياء"، و"عميل"، و"خائن"... وهي ألفاظ لا ترقى إلى مقام التقويم الموضوعي لبرنامج الرجل، وأدائه السياسي، بل تقصر على التسطيح والتجريح في شخصه. وصرح المرزوقي في حوار مع "فرنسا 24"، يوم 25 نوفمبر/ تشرين الثاني 2014: "إن منظومة التجمع المنحل هي مَن دعمت السبسي"، وهو رأي يقتضي التنسيب، ذلك أن عدداً مهمّاً من الذين صوتوا لمرشح "نداء تونس" هم من التجمعيين وغير التجمعيين، فمنهم الليبرالي، ومنهم القومي، ومنهم اليساري، ومنهم البورقيبي، ومنهم غير المتحزّب أصلاً، وفيهم مَن صوّت للباجي، لاستيائه من الأداء السياسي والاقتصادي للترويكا في الفترة الانتقالية. لذلك، لا يمكن رد الجميع إلى خزان "التجمع". وذهب المرزوقي إلى أن "فوز الباجي سيدفع البلاد نحو مرحلة رهيبة من عدم الاستقرار السياسي"، وهو حكم عام يندرج في حيّز التخويف من المنافس، وكان أحرى بالمتكلم أن يفصّل القول في أسباب الخوف من السبسي (العمر، التغوّل...)، بدل تفزيع الناس منه، خصوصاً أن الرجل، على علاته، ساهم في بلوغ التونسيين مرحلة انتخابات 23 أكتوبر/ تشرين الأول 2011. وأنكر التونسيون دعوة بعضهم إلى الاحتراب الأهلي، وتحريضهم أهل الجنوب على أهل الشمال، لأنهم صوتوا للسبسي، ورفضوا خطابهم الداعي إلى التشفي من المخالفين، والقائم على نعتهم بالأزلام والأقزام، وهو خطاب ينذر بإثارة النعرات الجهوية وتقسيم البلاد، وتهديد السلم الاجتماعي، ونسف المسار الديمقراطي. يحسب جل التونسيين الانتخاب فعل وجود، وتعبيراً عن الذات، ولسان حالهم يقول: "أنا أنتخب، إذن أنا موجود"، وهم ما عادوا يقبلون الوصاية على عقولهم، والاختيار بدلاً عنهم، والعمل على تنميط سلوكهم الانتخابي، وأحرى بالسياسيين أن يرتقوا إلى مستوى إدراك المواطنين، ويحترموا حقهم في اختيار الرئيس الذي يريدون. ومن المهم أن يعي السياسي ماذا يقول، ومتى وأين، وكيف يتكلم، وأن يعتذر للمواطنين متى وجب ذلك، لأن اللغة ذات أثر في الناس لا محالة. ومعلوم أن منطق الإقصاء والإقصاء المضاد لا يخدم مطلب التعايش الديمقراطي، بل يهدد بنسف الوحدة الوطنية، والانزياح عن التنافس السلمي عن السلطة إلى التعصب الشخصاني، أو الحزبي، أو الجهوي. وأحرى بمَن يريد الفوز برئاسة تونس، أن يبعث رسائل لغوية مطمئنة إلى الناس، ويظهر في صورة الرئيس الذي يجمع ولا يفرّق، يجمع المواطنين تحت سقف الوطن، وراية الحرية، وحق الاختلاف، لا تحت راية الزعامتية الواهمة، وادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة.            

511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.