عندما قامت الثورة في تونس وتأكّد الجميع أن الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، قد غادر البلاد من دون رجعة، شعر أبناء الحزب الحاكم السابق، "التجمّع الدستوري الديمقراطي"، باليتم السياسي، وسكنهم خوف شديد من المستقبل. بعد خمس سنوات من ذلك التاريخ، بدا أن هؤلاء بدأوا يشعرون بالثقة بعد أن أصبحت كثرة من الأطراف تخطب ودّهم وتتمنى قربهم طمعاً في مساندتهم التي بإمكانها أن توصل المتنافسين إلى منصة الحكم. ويبدو أن هذا ما يحاول القيام به الأمين العام السابق لحزب "نداء تونس" محسن مرزوق وجناحه، بعد انفصالهم عن "النداء" وشروعهم في تأسيس حزب جديد.
تفيد المعطيات المتوفرة أن جلسات حوار مطوّلة أجراها أخيراً مرزوق مع عدد من الشخصيات القيادية سابقاً في "التجمّع الدستوري الديمقراطي" المنحل. ومن هذه الوجوه المعروفة منذر الزنايدي، الذي سبق له أن ترشّح للانتخابات الرئاسية الأخيرة وحصل على نسبة محدودة جداً من الأصوات، بعدما ظن أنه يستطيع تحقيق انتصار كاسح. أما الوجه الثاني فهو عبد الرحيم الزواري، الذي كان يتمتع بمكانة مرموقة في العهد السابق، وهو ما جعله أيضاً يغامر وينخرط في السباق الرئاسي، لكنه أنقذ نفسه عندما اكتشف أن الريح معاكسة لتطلعاته فقرر الانسحاب ليس فقط من الانتخابات الرئاسية، ولكنه أعلن يومها عن استقالته من الحياة السياسية.
ولا يُعرف إن كانت هذه الحوارات ستسفر عن التحاق هذين القياديين السابقين في الحزب المنحل بمبادرة مرزوق ومن معه، أم أنها ستبقى عند حدود تبادل وجهات النظر، خصوصاً أن منذر الزنايدي يستعد للإعلان عن تأسيس حزب جديد خلال الأيام المقبلة. لكن المؤكد أن الحزب الذي سيتم الإعلان عن ولادته من قِبل مجموعة مرزوق لا يضم يساريين فقط، وإنما ستكون في هيئاته القيادية عناصر معروفة بانتمائها السابق لـ"التجمّع الدستوري" الذي أسسه بن علي، في حين تمسّك آخرون من العائلة السياسية نفسها ببقائهم ضمن صفوف "نداء تونس".
هذا التمزّق لما يُسمى بـ"العائلة الدستورية"، الذي استمر إلى الآن بعد خمس سنوات من الثورة يطرح سؤالاً بديهياً: لماذا عجز "التجمّعيون" عن توحيد صفوفهم على الرغم من أهمية حجمهم، ورضوا بالبقاء كقوة احتياط تحاول مختلف الأحزاب استثمار أجزاء من كتلتهم لتحقيق مآرب وأهداف متعددة، تكون في الكثير من الأحيان متضاربة؟
اقرأ أيضاً: السبسي يوزّع نيرانه يمينا ويسارا... والحبيب الصيد الناجي الوحيد
يرى أسامة خليفي، أحد الكوادر الشابة في حزب "نداء تونس"، أن "العائلة الدستورية قادرة على خلق زعامات جديدة، لأنها أدركت اليوم بأن زعاماتها التاريخية أصبحت غير قادرة على توحيد هذه العائلة وقيادتها"، معتبراً في حديث لـ"العربي الجديد" أن التشتت الراهن "تتحمّل مسؤوليته القيادات القديمة التي لو توحّدت لاستجابت لها القواعد الدستورية".
لا يختلف رأي آخر أمين عام لـ"التجمّع الدستوري" المنحل محمد الغرياني، عن وجهة نظر خليفي. يُذكّر الغرياني في حديث لـ"العربي الجديد"، أن حزب "التجمّع" ارتبط تاريخياً بالسلطة، أي أن قوته ومشروعيته يستمدها بالأساس من إدارته للحكم. وقد ترتب على ذلك أن "قواعده بقيت مرتبطة عضوياً بالجهاز الممسك بالحكم، فقد تربّت هذه القواعد على تلقي التعليمات من فوق، أي الصادرة من القيادة المركزية، ولم تعتد على إدارة شؤونها بشكل ديمقراطي ينبع من تحت، ولهذا عندما انتقل الحكم لغير الدستوريين تحلّل جسمهم وتفككت روابطه وفقدوا حتى مجرد وجود سلطة معنوية جامعة لهم، على الرغم من القواسم الكثيرة التي توحّد بينهم"، بحسب الغرياني.
ويعتبر الغرياني أن أهم عائق لا يزال يحول دون تحويل هذا الشتات من "التجمّعيين" إلى قوة سياسية موحّدة ومنظّمة، يتمثّل في "تعدّد الزعامات داخل الأسرة الدستورية، وهو ما جعل القواعد موزعة بين حزب نداء تونس بشقيه، وحزب المبادرة بقيادة كمال مرجان، ومجموعة أخرى تدعم منذر الزنايدي".
تُعتبر هذه الشهادة للأمين العام السابق لحزب "التجمّع" المنحل هامة، وذلك لكونها تفسر إلى حد كبير العجز الذي يعاني منه هذا "الجسم" السياسي الذي يواجه خطر التحلل، مما جعل أجزاء هامة منه تتسم بقابليتها للذوبان في أجسام أخرى حزبية أقل منها حجماً وأهمية، لكنها تملك عناصر قيادية قادرة على ملء الفراغ وتحقيق بعض طموحات أجزاء مما يسمى بـ"العائلة الدستورية". هذه العائلة التي لم يبقَ لها سوى الماضي الذي تتحسر عن فقدانه لكنها غير قادرة اليوم على إعادة إنتاجه. وأثبت حصاد السنوات الخمس الماضية أن الصف الدستوري سيبقى محكوماً بالتشرذم والتناحر بين قياداته في انتظار بروز "الزعيم" أو "الأب" الذي يمكن أن يُذكرهم بالحبيب بورقيبة أو حتى بالرئيس المخلوع زين العابدين بن علي. وإلى أن تحين تلك اللحظة غير المؤكدة سيبقى هذا الكم العددي الهائل من قوى الاحتياط معرضاً للاستغلال والاستثمار من قبل معظم اللاعبين في الساحة السياسية المحلية.
اقرأ أيضاً: نداء تونس يواصل الانقسام: كتلة جديدة في الأفق