تونس: حكومة خارج الانتظارات

27 يناير 2015

الحبيب الصيد يعلن حكومته (23يناير/2015/الأناضول)

+ الخط -

وأخيراً، أعلن رئيس الحكومة التونسية المكلف، الحبيب الصيد، عن تشكيلة حكومته، وباحت مشاوراته المطولة بأسرارها بعد طول ممانعة وتردد. وفي قراءة أولية للتشكيلة، نلاحظ ملامح عامة تميزها، وأكثر هذه العلامات وضوحاً غياب التعدد الحزبي عنها، وإذا استثنينا الحضور المحتشم للاتحاد الوطني الحر في مناصب غير ذات أهمية، يمكن القول، إن حزب نداء تونس هو المهيمن على تشكيلة الحكومة الجديدة، حضوراً وتأثيراً، وخلافاً لما راج في المشاورات، غاب حزب آفاق تونس، وغابت حركة النهضة ذات الثقل البرلماني المهم. ويكشف هذا الميسم العام لحكومة الصيد أن المشاورات التي تمت مع الأحزاب المذكورة كانت مجرد اتصالات شكلية، لإضفاء مزيد من الأهمية على حكومة لا تبدو بذاتها قادرة على ادعاء تمثيل كل أطياف المشهد السياسي الوطني.

لقد أخل "نداء تونس" بوعوده، وبحديثه عن التوافق الوطني، ولم تكن كلمات الرئيس، الباجي قائد السبسي، وحديثه عن ضرورة التوافق الوطني والوحدة الوطنية سوى مجرد ألفاظ للاستهلاك العام. أما حقيقة الأمور، فقد سارت نحو هيمنة حزب نداء تونس على التشكيلة الحكومية الجديدة، وحتى العناصر غير الحزبية المضافة للتشكيل الحكومي، فهي لا تعدو أن تكون عناصر محسوبة على تيار اليسار غير المنتظم، والمرتبط عضويّاً بالجناح اليساري في حزب نداء تونس.

كما شملت الحكومة عناصر من النظام السابق، وبعضها من غير ذوي الكفاءة، وفشلت سابقاً في إدارة المواقع الرسمية التي شغلتها. وإذا لم يكن غريباً أن يهيمن الحزب الفائز انتخابيّاً، فإن ما يثير الانتباه هو إبعاد حزب آفاق تونس الذي رفض الانضمام بصورة شكلية الى الحكومة الجديدة، وهو ما ذهبت إليه حركة النهضة التي أبدت استعدادها سابقاً للمشاركة في حكومة وحدة وطنية، غير أن العرض الحكومي الذي قدمه لها رئيس الحكومة المكلف لم يكن في مستوى تطلعاتها، بل وكشف عن خضوع لاشتراطات قوى يسارية استئصالية في استبعاد أي حضور للقوى التي شاركت في الحكم، في أثناء الفترة الانتقالية، وسيكون لهذا الاستبعاد أثره في علاقة "النهضة" مع الحكومة الجديدة، حيث أن انضمام "النهضة" إلى صفوف المعارضة، بالإضافة إلى القوى الأخرى التي رفضت، منذ البداية، التعامل مع حكومة نداء تونس سيجعل الحكومة الجديدة في مواجهة معارضة قوية، سواء من حيث الحضور البرلماني، أو من حيث الامتداد الشعبي.

كان المأمول أن تجنح الحكومة الجديدة إلى ضم أكبر تمثيل ممكن من الأحزاب السياسية، خصوصاً وأنها ستواجه استحقاقات صعبة على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، في ظل حالة التضخم المالي، وتدحرج سعر صرف الدينار أمام الدولار، وتصاعد الإضرابات الاجتماعية، بالإضافة إلى ضرورة اتخاذها إجراءات قاسية من أجل الإصلاح الاقتصادي، وتحقيق نقاط في النمو المتعطل في البلاد. تصرف الحبيب الصيد خارج منطق التوافق الوطني وتجميع القوى وبناء أكبر قاعدة برلمانية وشعبية للحكومة الجديدة، ليجد نفسه يستجيب لرغبة القوى النافذة في "نداء تونس" نحو الاستئثار بالمواقع السلطوية المهمة، خصوصاً وأن التجاذب بين القوى المكونة للحزب الفائز انتخابيّاً كان حادّاً على المواقع وتقاسم الكراسي الوزارية.

والآن، وقد تشكلت الحكومة الجديدة، وبصيغتها الحالية، فإن ما يمكن تأكيده أنها ستكون إحدى أضعف الحكومات التي عرفتها تونس، من نواحي عدة، من حيث حصولها على الدعم البرلماني الضروري، ومن حيث إدارتها الملفات الشائكة في المشهد السياسي التونسي. وقد تشهد الأيام المقبلة مزيداً من الضغوط الاجتماعية والاقتصادية، ما يعني حالة من الاحتقان الشعبي الذي قد يصعب السيطرة عليه، فالحكومة الجديدة حددت خياراتها للتصرف خارج إطار منطق التوافقات، والاكتفاء بذاتها، وبدعم الحزب الفائز الذي يهيمن عليها، وبعيداً عن لغة المناطقية وصراع الجهات، عرفت الحكومة الجديدة غياباً لوزراء من مناطق الجنوب التونسي التي لم تمنح أصواتها لحزب نداء تونس برلمانيّاً، وصوتت بكثافة للمنصف المرزوقي في الانتخابات الرئاسية، ما يطرح أكثر من سؤال عما إذا كان الأمر يتعلق بمعاقبة هذه الجهات على توجهاتها الانتخابية، أم أن الأمر يتعلق بمنطق العطايا والمكافآت في توزيع المناصب؟ ويعيدنا هذا الأمر بالذاكرة إلى زمن حكم الرئيس المخلوع، زين العابدين بن علي، حينما كان يتعامل مع الجهات بنوع من التمييز الخفي.

إعلان الحكومة الجديدة في تونس، وعلى الرغم من أنه خطوة جديدة نحو استقرار الأوضاع السياسية في البلاد، إلا أن مُخرجات المشاورات التي قام بها الحبيب الصيد لم تكن متناسبة مع حجمها، ومع الآمال المعقودة عليها، وإنما أعطت الانطباع أن تونس تسير نحو جولة جديدة من التجاذب السياسي والحزبي، وإن كانت الوقائع تقول إن الحكومات الجديدة في أوضاع الانتقال الديمقراطي، سرعان ما تنهار عند أول صعوبة، وحينها قد نجد أنفسنا أمام خلط جديد للأوراق الحزبية، وتشكل جديد لمشهد التحالفات والتوافقات، لأنه لا يكفي أن نسارع إلى تشكيل حكومة جديدة، وإنما الأهم أن نضمن لها عوامل النجاح والبقاء والاستمرار.

B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.