تونس .. حكومة تلد أخرى
أعلن رئيس الحكومة التونسية المكلف، الحبيب الصيد، تشكيلة حكومته الجديدة/ القديمة، بعد رفض حكومته الأولى قبل عرضها على مجلس نواب الشعب، في سابقة لم تعهدها تونس من قبل. والتشكيلة الجديدة (جزئياً) ضمت ائتلافاً من الأحزاب ذات التمثيل البرلماني الواسع، وما يمكن ملاحظته أن المناصب الوزارية الأساسية، ونعني بها وزارات السيادة، ظلت في يد الوزراء أنفسهم، في التشكيلة الأولى، فيما تغير بعض الوزراء، وزاد عدد المناصب، مقارنة بالحكومة الأولى، حيث ضمت التشكيلة الوزارية الأولى 24 وزيراً، وضمت الثانية 27 وزيراً، وتوسع الائتلاف الحكومي ليشمل حزبي آفاق تونس الليبرالي وحركة النهضة ذات التوجه الإسلامي، بالإضافة إلى "نداء تونس" و"الاتحاد الوطني الحر".
وتشير القراءة الأولية في تركيبة الحكومة التونسية الجديدة إلى هيمنة واضحة لحزب نداء تونس الذي يعتبر واقعياً المسؤول عن الحكومة الجديدة، باعتباره صاحب أكبر كتلة في مجلس نواب الشعب، بالإضافة إلى حضور متساو لحزبي الاتحاد الوطني الحر وآفاق تونس بثلاث وزارات لكل منهما، وإن كان التمثيل الوزاري في الحكومة لا يبدو متجانسا مع عدد النواب الذي يمثله كل منهما. فحزب آفاق تونس لا يحظى إلا بثمانية مقاعد في البرلمان، وقد تمكن من فرض حضوره في التشكيلة الحكومية، وهو ما ينطبق تقريباً على الاتحاد الوطني الحر، مقارنةً بحركة النهضة التي على الرغم من حضورها القوي في مجلس النواب (69) مقعداً، كان تمثيلها رمزياً داخل أروقة الحكم، من خلال وزير واحد وثلاثة كتاب دولة (وزراء دولة). وعلى الرغم من هذا التمثيل الضعيف، بدا واضحا أن حضور حركة النهضة في الحكومة محل تجاذب في الفترة التي سبقت الإعلان عن التشكيلة الحكومية الجديدة.
فقد حاول الشق اليساري في "نداء تونس" الضغط بكل الوسائل لمنع مشاركة حركة النهضة في الحكومة المقبلة، في ما بدا إصرار النهضة واضحاً على المشاركة، ولو لم تكن مشاركتها مريحة، أو ذات تمثيلية مهمة، ومؤثرة في أجهزة الحكم. وعلى الرغم من أنها لم تستطع فرض وجودها بشكل قوي، إلا أن مجرد انضمامها للحكومة يعد كسباً سياسياً واضحاً لحركة النهضة، وللتيار التوافقي داخل نداء تونس نفسه، ضدا للتوجهات الإقصائية والرافضة للخط التصالحي الذي سارت فيه تونس، منذ انطلاق الحوار الوطني سنة 2013. فبعض قوى اليسار، الحزبية منها والمستقلة، أو المنضوية تحت لافتة "نداء تونس"، كانت ترغب جدياً في حشر حركة النهضة في الزاوية، وعزلها سياسياً، وعدم منحها فرصة الظهور في المشهد السياسي، غير أن حسابات رئيس الحكومة الجديد، والمتعلقة بتوفير أكبر حاضنة ممكنة من الدعم البرلماني، قد غلبت على هذا التوجه.
في المقابل، مثّل استبعاد تحالف الجبهة الشعبية، الذي يضم قوى حزبية يسارية مختلفة، تعبيراً عن مدى رفض هذه القوى للحضور الحكومي في إطار يضم حركة النهضة معها، من ناحية. وثانياً، يعبر عن اختلاف في البرامج والتمشيات الحكومية التي قد تشكل محل تناقض بين الطرفين، على أنه يمكن ملاحظة الحضور القوي لشخصيات يسارية مستقلة، في التركيبة الحكومية الجديدة، على رأس وزارات مختلفة، فالحكومة قد تكون أشبه بسفينة نوح، حملت من كل المشارب والتوجهات، وهذا التوجه على الرغم من أهميته في إحداث نوع من الائتلاف الوطني، والتقارب الحزبي بين قوى مختلفة، إلا أنه قد يشكل، في الوقت نفسه، نقطة ضعف الحكومة المقبلة، من حيث عدم تجانس وزرائها، وغياب التناغم في الأداء في تركيبتها، وهو مزلق، كانت حكومة الترويكا السابقة قد عانت منه، وأثر على أدائها، بالإضافة إلى عوامل أخرى، ليس هذا المجال لذكرها. والأكيد أن ضم حركة النهضة للحكومة فجّر الخلافات داخل هياكل "نداء تونس" التي يرفض بعضها مثل هذا التقارب، ويعتبره خيانة لأصوات الناخبين، كما يثير امتعاضاً لدى جزء من قيادات النهضة وقواعدها، ممن كان يفضل البقاء في المعارضة، وتحميل "نداء تونس" عبء أخطاء الحكومة، وعدم المشاركة ولو صورياً في قرارات مقبلة للحكومة، تفتقر للقبول الشعبي والرضا الجماهيري. وسيكون لهذه الخلافات الحزبية الداخلية انعكاساتها على الانتخابات المحلية والبلدية المقبلة، والتي قد تستفيد منها قوى المعارضة الشعبية والبرلمانية التي لا تتواءم مع حكومة الحبيب الصيد.
وخارج الحكومة، تظل القوى الأخرى تقوم بدورها المعارض، والذي سيتشكل برلمانياً من نواب التيار الديمقراطي والمؤتمر من أجل الجمهورية وحركة الشعب، وفي الشارع من خلال "حراك شعب المواطنين" الذي أعلن الرئيس السابق، المنصف المرزوقي، عن تأسيسه، ما يعني أن الحكومة، وعلى الرغم من تمثيليتها المريحة برلمانياً، فإنها ستظل تحت رقابة القوى الشعبية والبرلمانية المناوئة لها، والتي ستحرص على كشف كل تجاوز قد يبدر منها.
ظل المخاض الحكومي يراوح مكانه مدة تجاوزت المائة يوم، وتم إعلان وفاة حكومة أولى قبل ولادتها فعلياً، لتنجب أخرى، تتميز بكونها سياسية بامتياز، وسيكون أمامها اختبار عسير في المرحلة المقبلة، في ظل صعوبات اقتصادية، وتعثرات مالية، وقرارات صعبة، لا بد من اتخاذها، ما يعني أن هذه الحكومة نفسها، قد تكون مرشحة لعدم الاستمرار خمس سنوات كاملة. ويبقى الأهم ضمان نجاح التجربة التونسية في الانتقال الديمقراطي، والتداول السلمي على السلطة، وهو الرهان الحقيقي للفترة المقبلة.