يفتح إعلان الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي عدم نيّته تجديد ولايته الرئاسية، لأن مصلحة تونس تقتضي انتخاب رئيس جديد، المجال أمام تساؤلات كثيرة عن دوافع هذا القرار وتداعياته على المشهد المستقبلي للبلاد. كلام السبسي الذي قاله قبل أيام، خلال خطابه في جلسة افتتاح مؤتمر "نداء تونس"، قوبل بمحاولة من المشاركين في المؤتمر لثنيه عن قراره، رافعين شعار "الشعب يريد السبسي من جديد"، إلا أنه تمسك برفضه الترشح.
هناك عوامل عديدة يمكن أن تفسر قرار السبسي. فهو مدرك بأن سنه (92 سنة) ووضعه الصحي لن يساعداه على البقاء في موقع الرئاسة لمدة خمس سنوات أخرى. فعلى الرغم من استمرار نشاطه البدني والذهني بشكل جيد، إلا أنه لم يعد قادراً على تحمّل العمل لفترة طويلة في اليوم، ويكاد يلازمه طبيبه الشخصي في معظم الأوقات حتى يبقى ملتزماً بمواعيد الدواء. إلا أن ذاكرته الجيدة وقدرته الخطابية المتميزة، وإصراره على البقاء واقفاً لساعة على الأقل، وتوجهه إلى المطار مرات عديدة لاستقبال القادة العرب خلال القمة العربية الأخيرة، واستيقاظه باكراً كل يوم، واطلاعه على الصحف والتقارير الإعلامية والسياسية والأمنية، وزياراته المتواصلة لكبرى العواصم العالمية للمشاركة في مؤتمرات هامة، بما ذلك اجتماعات السبع دول الأكبر في العالم، كل ذلك لا يزال يثير دهشة الرؤساء والزعماء الذين يلتقون به. ولم يتردد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما في أن يسأله ذات مرة عن سر هذه الحيوية.
ومع ذلك فقد بدأت تظهر على السبسي علامات الشيخوخة، وهو يكرر في مناسبات عديدة أن الموت حق على الجميع. وعلى الرغم من بعض الضغوط العائلية والحزبية التي تريد دفعه نحو الترشح مرة أخرى للانتخابات الرئاسية في 10 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، إلا أنه واعٍ للانعكاسات الخطيرة التي يمكن أن تنتج عن ذلك، سواء بالنسبة لتونس أو بالنسبة له شخصياً. فالذين يحرصون على بقائه يريدون اتخاذه مظلّة لهم، ويرغبون في الاستقواء به واستخدام اسمه وتاريخه للاستفراد بالحكم والقرار، ما سيوسع من دائرة خصومه، وسيضعف الدولة ومؤسساتها. ولا شك أن السبسي يستحضر في هذا السياق مثالين على غاية من الأهمية: الأول عايشه عن قرب، حين تمسك الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة بالسلطة قبل أن يكون رئيساً مدى الحياة ولم يُرسخ لدى كوادر حزبه مبدأ التداول على الحكم، فكانت النتيجة أن غرقت البلاد في الفوضى، وتحوّل الزعيم إلى دمية يحركها فريق من أفراد أسرته والمقربين منه، وهو ما استغله زين العابدين بن علي وقرر إزالته عن طريق انقلاب ناعم.
أما المثال الثاني فلم تمض عليه سوى فترة وجيزة، وذلك حين قبِل الرئيس الجزائري الخارج من السلطة، عبد العزيز بوتفليقة، بأن تدار الجزائر باسمه، في حين أنه أصبح مطالباً بأن يفتح الطريق لغيره. وتربط بين بوتفليقة والسبسي علاقات قديمة ووثيقة، وما حدث في الجزائر يمثل درساً للجميع. وبناء عليه يرفض الرئيس التونسي أن ينهي حياته السياسية بالخروج من السلطة عبر الباب الصغير، في حين أن أمامه فرصة نادرة ستجعله من بين الرؤساء العرب النادرين الذين يغادرون الحكم بإرادتهم، على الرغم من أن الدستور التونسي يسمح له بالترشح إلى الرئاسة مرة ثانية. لكن هناك في تونس من لا يزال يشكك في النوايا الحقيقية للسبسي، ولا يستبعد هؤلاء أن يتراجع عما أعلنه، وأن يخضع إلى رغبات عائلته وحزبه، وهو ما سيجعله تحت الاختبار طيلة الأشهر المقبلة أمام الرأي العام والخارجي.
من جهة أخرى، نجح السبسي في دفع مؤتمر حزب "نداء تونس" لرفع التجميد عن رئيس الحكومة يوسف الشاهد، في تحرك يأمل من خلاله عودة الأخير إلى "بيت الطاعة"، وربما قد يفتح ذلك المجال أمام ترشيح الشاهد باسم الحزب لخوض الانتخابات الرئاسية المقبلة. عندها ستتوفر الفرصة لعودة أغلبية الكوادر والعناصر القيادية التي انسحبت من "نداء تونس"، وتتخلى عن حزب "تحيا تونس" الذي احتل في آخر استطلاعات الرأي المرتبة الثانية في نوايا التصويت للانتخابات البرلمانية. وبحسب محللين، يرى السبسي أنه السيناريو الوحيد القادر على تحجيم حركة "النهضة" خلال المرحلة المقبلة، ويقوم على إعادة توحيد "نداء تونس". وإذا لم يتحقق ذلك، فإنه يخشى، في ضوء التشتت الكبير الذي يعاني منه حلفاؤه، أن يكتسح الإسلاميون المشهد السياسي، إذ لن يجدوا أمامهم منافساً حقيقياً. لكن سيناريو توحيد القوى بوجه "النهضة" لا يمكن أن يمر بسهولة، إذ ستتصدى له أطراف عديدة، بينها عدد من قادة "النداء" الذين يعتقدون بأنهم الأفضل لخوض الانتخابات الرئاسية. كذلك سيسعى الذين ساهموا بقوة في بناء الحزب البديل "تحيا تونس" لإقناع الشاهد بعدم الاستجابة لهذا العرض المغري.