مع العلم أن كثراً عارضوا قرار تعيين الصيد، ومنهم من داخل "نداء تونس"، ولا تزال التداعيات مستمرة إلى اليوم، بفعل تخلّي بعض من أنصار النداء عن الصيد، وتركه وحيداً في أزمته في مواجهة الجميع. وعلى الرغم من أن مسؤولية الوضع العام في تونس، لا يتحمّلها الصيد وحده، ووجود ظروف كثيرة، وضعت هذه الحكومة في مواجهة الصعوبات، إلا أن رئيس الحكومة ساهم بنفسه بطريقة أو بأخرى في تأجيج النيران ضده. وكان أول أخطائه السياسية، عدم تعويله على كفاءاتٍ سياسية، تُمثّل جزءاً من القواعد الشعبية، تكون قادرة على مساندته في الأوقات الصعبة، بل فضّل الاعتماد بنسبة كبيرة على مستقلّين، غير معنيين بشكل مباشر بالمعارك السياسية الضارية.
ولم يكتفِ الصيد بذلك، بل تلا التزاماً، كان الجميع يعلم مسبقاً أنه التزام آيل إلى الفشل، بعد طلبه مهلة مائة يوم من البرلمان والمعارضة، لعرض أولى نتائج عمل حكومته. وهو تكتيك غير ناجح، لأن أي حكومة في أوضاع مماثلة للوضع التونسي الصعب، تحتاج إلى مدة أطول من مائة يوم، من أجل تحقيق إنجاز ملموس.
وفضلاً عن ذلك، فللصيد نقطة سلبية تتمثل في صعوبة تواصله مع الناس، خصوصاً أنه ليس بالخطيب البارع، ويُحيط نفسه بأشخاصٍ غير قادرين على التواصل مع الناس بدورهم، ما يُكلّفه غاليا في هذه اللحظات الحرجة التي يمرّ بها. ويواجه الصيد أيضاً عدم رضا التونسيين على حكومته، فقد أظهر آخر استطلاع للرأي أنّ 58.7 في المائة من التونسيين يعتبرون أنّ "أداء الحكومة سيئ".
اقرأ أيضاً: تونس على مشارف حوار وطني
كما اعتبر 88.4 في المائة من المستفتين أن الحكومة أخفقت في خلق فرص عمل جديدة والحدّ من البطالة، بينما رأى 79.9 في المائة أنها لم تنجح في تخفيض الأسعار وتحسين المقدرة الشرائية. وأفاد 75.9 في المائة من المستفتين أن الحكومة لم تنجح في الحدّ من الفساد المالي والإداري، بينما اعتبر 73.1 في المائة أنها لم تحاول النهوض بالاقتصاد الوطني. وذكر 72.4 في المائة منهم أن الحكومة فشلت في تحقيق التنمية الجهوية وبعث مشاريع في الجهات، ورأى 69 في المائة أن الحكومة أخفقت في الحدّ من الإضرابات.
ويكشف الاستطلاع عدم تسامح التونسيين مع الحكومة ولا الصبر عليها، وربما قد تحدّ من دعم المناصرين الوحيدين له: السبسي ورئيس "حركة النهضة"، راشد الغنوشي، اللذين يعتبران أن المحافظة على نسبة من الاستقرار السياسي تبقى أولوية مُطلقة في هذه المرحلة. ومن شأن حماية الثنائي للصيد إبعاد بعض الطامحين لخلافته، فإقالته في هذا الوقت ستكون إعلاناً مبكراً عن فشل الاختيار، وربما يكون خطأً سياسياً كبيراً.
ويعتبر الغنوشي أن "تونس شهدت بعد الثورة سبع حكومات لم تختلف نتائجها نوعياً، وهو ما يمثل دليلاً على أن الأمر لا يتعلق برئيس الحكومة بحدّ ذاته، بل بالمشاكل التي تعيشها تونس بعد الثورة، وبعد تجاوز الناس عقدة الخوف". ويبدو الرصيد الهشّ لحكومة الصيد مناخاً مناسباً لإنعاش الطموحات السياسية لشخصيات تونسية عدة.
وتستبعد جهات قيادية تحدثت لـ "العربي الجديد" فكرة إطاحة الصيد في الوقت الراهن، لأن "تونس لا تحتمل هزة سياسية بهذا الحجم حالياً، ولا فراغاً يمتد أشهراً طويلة للبحث عن بديل للصيد وتشكيل حكومة جديدة". مع أنها لا تستبعد "حدوث تعديلات حكومية قد تكون قريبة".
ويشير متابعون في تونس إلى أن "غرابة موقف نداء تونس وبقية الأحزاب الصامتة تجاه الحكومة، يعكس في الحقيقة رغبة واضحة في سقوطها، لعدم إيمان البعض بتركيبتها منذ البداية، ولطموح الآخرين للانتساب إليها وربما قيادتها".
وفي السياق، تشهد الساحة السياسية في تونس صعوداً صاروخياً لأسهم محسن مرزوق، مستشار السبسي السياسي في قرطاج، الذي استقال من منصبه لتولّي الأمانة العامة لـ "نداء تونس"، ومدير حملته الانتخابية. وفي ظلّ ثقة السبسي به، قام مرزوق بجولات على عواصم غربية وعربية عدة، بالاضافة إلى رحلتي الولايات المتحدة وألمانيا، قبل أن يبدأ رسمياً مهامهه كأمين عام "نداء تونس" الإثنين المقبل، في امتحان ينقله من عمله كمستشار إلى قيادة حزب.
وسيكون على مرزوق إثبات قدرته في إنجاح المصالحة داخل حزبه، بين الشقين المتصارعين منذ أشهر، وفي الوقت عينه تحسين علاقته بـ "حركة النهضة"، وإسقاط كل سلبيات العلاقة، التي سادت أثناء مفاوضات تشكيل الحكومة.
ويدرك مرزوق أن صعوده إلى قصر القصبة، مقرّ رئاسة الحكومة، يمرّ حتماً في الوقت الحالي عبر موافقة "النهضة"، التي كشف قيادي بارز فيها، رفض ذكر اسمه، لـ "العربي الجديد"، أن "مواقف مرزوق الأخيرة شهدت بعض التحسّن في العلاقة بين الحزبين، غير أنه ينبغي أن تقترن الأفعال بالأقوال. والنهضة ليست مع أو ضد أشخاص، بقدر ما تُقدّر المواقف والبرامج".
وبالعودة إلى الشقين المتصارعين داخل "نداء تونس"، فقد أكدت مصادر مطلعة لـ "العربي الجديد"، أن "قيادات بارزة في الشق الإصلاحي الذي يتزعمه حافظ السبسي نجل رئيس الجمهورية، وقيادات من التيار الدستوري، عقدت لقاءً في العاصمة الفرنسية باريس مع رئيس الحكومة السابق مهدي جمعة". وأضافت أن "هذا اللقاء يأتي في إطار ما يمكن تسميته بالسيناريو البديل، الذي يطرحه التصحيحيون، اذا ما تواصل إقصاؤهم من الحزب، قبل أو بعد المؤتمر الحاسم للحزب هذا الصيف".
ولفتت المصادر إلى أن "لقاء باريس عرض التشاور حول العناوين الرئيسية في البلاد، واختبار الطرفين استعداد كل منهما للتعاون مع الآخر، إذ يبدو التقاء الطرفين منطقياً جداً، فمهدي جمعة نجح في المحافظة على رصيد شعبي مهم، على الرغم من ابتعاده عن العمل السياسي المباشر، ولا يمكنه أن يتجاوز أو يتخلى بسهولة وسذاجة عن مستقبل سياسي واضح".
وتوضح "لكن جمعة يحتاج إلى ماكينة حزبية تدعمه في امتحاناته الانتخابية الممكنة، وهو ما حققه التيار الدستوري والتجمعي، للنداء وللسبسي في الانتخابات الماضية. في المقابل، يحتاج التصحيحيون إلى زعيم حقيقي، يدخل غمار المنافسة باسمهم إذا تمّ الانفصال عن النداء".
بالإضافة إلى جمعة ومرزوق، تتضمن قائمة الطامحين في رئاسة الحكومة أسماء أخرى، أبرزها ياسين إبراهيم زعيم حزب "آفاق تونس" المنضوي في التحالف الحكومي، الذي لا يتوقف عن انتقاد الحكومة و"النهضة" في الوقت عينه، لزيادة رصيد حزبه والبحث عن تموضع بارز له في الساحة السياسية الجديدة. لكن التحالفات الحالية لا تسمح لإبراهيم بتحقيق هذا الهدف قريباً. ووسط كل هذا يقف الصيد منفرداً ومتسلحاً بشيء من الحيادية والنجاعة الإدارية، وقد يتمكن من قلب الطاولة على الجميع، في حال نجح بتحقيق إنجاز ما لصالح حكومته.
اقرأ أيضاً: جلد الثور الأميركي في تونس