01 نوفمبر 2024
تونس.. الخصب السياسي والاتحاد المدني
ينطلق في تونس هذه الأيام موسم جديد للخصب السياسي، بعد تحديد موعد الانتخابات البلدية، وهو 6 مايو/ أيار المقبل، وفق الأمر الذي أمضاه الرئيس الباجي قائد السبسي، من مظاهره تشكيل القوائم الانتخابية للأحزاب والائتلافات والجبهات الحزبية والمجموعات المستقلّة، التي تستوجب عددا كبيرا من المترشحين لتغطية 7177 مقعدا، تمسح كامل التراب التونسي المقسّم إلى 350 دائرة بلدية، تطبيقا لقاعدة دستورية. ويفرض القانون الانتخابي التونسي شروطا مجحفة، على المتقدمين للانتخابات الاستجابة لها، من أبرزها التناصف العمودي والأفقي بين الإناث والذكور، وتمثيلية الشباب وذوي الإعاقة، والتمويل اللاحق للحملة الانتخابية لمن يتجاوز العتبة المحدّدة بـ 3%. الاتحاد المدني هو ثمرة للخصب السياسي للانتخابات البلدية، وإفراز لسوقها المنتعشة، وأحد مهرجاناتها البارزة التي يتحول فيها الضمور السياسي والحزبي إلى نقيضه بروزا وتجليا، فتحضر الكاميرات وتبث التلفزيونات وتنشط الإذاعات، فتستحيل القلّة كثرة، والعقم إنجابا وولادة. تلك هي الصورة التي تعمل وسائل الدعاية الحديثة، المنتمية في الباطن أيديولوجيا وعقائديا، والمسوّقة في الظاهر حيادا وموضوعية وبحثا عن الحقيقة، على ترسيخها لدى متابعي الشأن العام والمشتغلين به، فبعض أطراف الاتحاد أظهروا ثراءً يسيل لعاب اللاهثين من وسائل الإعلام والدعاية والعاملين في مجال الكوتشينغ والتسويق السياسيين.
لا أحد يغبط مكونات الاتحاد المدني حقهم في الائتلاف والاتحاد والتكتل والتجمع، لأجل خوض
معركة سياسية مهمةٍ، لا يتجاهل قيمتها السياسية ودورها في بسط النفوذ الحزبي وتوسيعه، إلا عديم المعرفة بأهميتها وجدواها وأثرها في الحياة العامة، أو فاقد القدرة على خوضها، وتسجيل نقاط في سجلاتها ودفاترها. لكن وجب القول إن تحقيق الأهداف السياسية لا يتم بالتمني. فالمتمعن في أطراف الاتحاد الوليد لا يلقى عسرا في تقدير حجم هذا الائتلاف، فبعض مكوناته تكاد لا ترصد بالعين المجرّدة، وأسماؤها لا يحفظها الرأي العام ضمن التشكيلات الحزبية المشتغلة بالحياة العامة. ويجد المرء صعوبةً في العثور عليها ضمن قائمة الأحزاب التونسية التي تجاوزت 210 أحزاب. والاتحاد في تشكيلته الحالية أقرب إلى تجمع جنرالات السياسة الذين يفتقرون إلى جيش حقيقي من الجنود منه إلى أحزابٍ جماهيريةٍ، قادرة على المنافسة السياسية والتعبئة الشعبية، والقدرة على تلبية شروط العملية الانتخابية، وخصوصا العدد الضخم المطلوب من المترشّحين ومساعديهم من المراقبين، للحيلولة دون الغش وتزييف الانتخابات برمتها.
تناقضات كثيرة ومفارقات مستعصية على الفهم، تستدعي فك ألغازها في تجربة الاتحاد، من أبرزها الاختلاط بين أحزاب ذات رصيد نضالي ومواقف راديكالية، قادمة من رحم التاريخ ومقاومة الاستبداد، على قلّتها، أمثال حزب العمل الوطني الديمقراطي والحزب الجمهوري، وأخرى لم تتذوق يوما طعم النضال السياسي، ولم تكتو بمعاناته وسجونه ومعتقلاته ومجمل عذاباته من تفكيك أسري، وطرد تعسفي من العمل، وتجنيد إجباري، ومراقبة إدارية، وحرمان الأطفال من حقهم في الدراسة، على شاكلة حزبي البديل التونسي وآفاق تونس، وثالثة ذات خلفية وانتماء دستوري - تجمعي راسخ، مثل المبادرة ومشروع تونس. والمفارقة الأهم الازدواجية في انتماء مكونات الاتحاد لكل من السلطة والمعارضة في الآن نفسه، حتى أن حزب المبادرة ينتمي نوابه إلى كتلة حزب نداء تونس البرلمانية، وله تمثيل في الحكومة من خلال حقيبة وزارة المرأة والطفولة، في حين يتصدّر أمينه العام اجتماعات الاتحاد المدني وندواته الصحافية.
بعض مكونات الاتحاد أحزاب منشقة عن حزب نداء تونس الحاكم، يتزعّمها شخوص زاولوا الحكم، وتولوا مناصب عالية في فريق الرئيس الباجي قائد السبسي، عند بداية ولايته الرئاسية، وأيدوا الحكومات المتعاقبة التي شكلها كل من الحبيب الصيد ويوسف الشاهد، ومنحوها الثقة، حتى بعد ظهور أحزابهم الخاصة، واختاروا منذ فترة قصيرة القفز من سفينة الحكم وداعميه قبل غرقها، مصنفين أنفسهم ضمن المعارضة، وذلك لكسب جمهور انتخابي، بعد الفشل الذريع لتلك الحكومات، والعجز عن تحقيق أي من الوعود الانتخابية، من قبيل توفير 400 ألف موطن شغل، وتوفير125 مليار دينار لموازنة الدولة وبرامجها التنموية عند نهاية المدة النيابية التي انطلقت سنة 2014. والحال أنهم أنهكوا الدولة التي حققت، في فترة حكمهم، نسبة قياسية من المديونية، بلغت 71% من الناتج الوطني الخام، من دون الديون الداخلية. ومن شروط الانتماء إلى المعارضة إيداع مطلب في الغرض في مجلس نواب الشعب، وعدم التصويت للحكومة بالنسبة للأحزاب البرلمانية، الأمر الذي تفتقده أحزاب الاتحاد المدني، ناهيك أن تكون بعض أحزب الاتحاد الأخرى جزءا من الحكومة نفسها، ما يفقد هذا التجمع الحزبي الانتخابي
الحدود الدنيا من المصداقية، مقدمة لإقناع الجمهور الانتخابي، ليمنحهم شرف التصويت لهم.
الاتحاد المدني الذي يقدم نفسه بديلا للائتلاف الحاكم الندائي - النهضوي، الذي أظهر فشلا غير مسبوق في إدارة الدولة، وتحقيق أدنى المطالب الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين، يكرّر، في نسخة رديئة، تجربة "نداء تونس"، قبل أن يتحالف مع عدوه اللدود، أو هكذا كان هذا الحزب يقدم نفسه، فهو لم ينتج خطابا سياسيا جديدا، أو برامج اقتصادية واجتماعية متمايزة، أو حتى شعارات مختلفة عما سوّق له "نداء تونس" في حملته الانتخابية سنة 2014، من قبيل المدنية والحداثة، وهي كلمات باتت ممجوجةً، ولم يعد لها معنى في القاموس السياسي التونسي، بعد تحالف الندائيين الحداثيين غربيي الهوى مع حركة النهضة الدينية قروسطية الانتماء.
وتتكرر مستويات التعبئة الانتخابية في نسختها لسنة 2014 التي تقوم على قاعدة التصويت الناجع، وقطع الطريق أمام حركة النهضة الرجعية التي لم يجدوا حرجا في التحالف معها، والجلوس مع وزرائها جنبا إلى جنب، والتماهي معها في التصويت تحت قبّة البرلمان. والحال أن التاريخ لا يعيد نفسه، وإن أعاد نفسه ففي شكل مهزلةٍ أو ملهاةٍ، كما هو مثبت ماركسيا.
انتبه مؤسسو الاتحاد المدني إلى الهنات وعناصر الضعف المشار إليها في تجاربهم المنفردة، وفي تجربتهم متجمّعين، فجاء بيانهم الصادر يوم 23 يناير/ كانون الثاني المنقضي، بمناسبة تأسيس ائتلافهم بمنمق الكلام ومعسوله، داعين إلى "يقظة المجتمع ضد عودة الهيمنة والتسلّط وتكريس التعدّدية السياسية القائمة على التوازن والتنافس، وتثبيت أسس دولة القانون ودعم انخراط القوى الحيّة في وضع أسس حوكمة رشيدة والحرص على وضع حد لتشتت القوى الديمقراطية"، إلا أن ذاكرة النخب السياسية ما زالت تستحضر تجربة جبهة الإنقاذ والتقدم التي أسسها بعضٌ من مكونات الاتحاد المدني، مثل أحزاب مشروع تونس والعمل الوطني وتونس أولا، في نهاية شهر إبريل/ نيسان سنة 2017، وهي مكونات رئيسية في التجربة الجديدة، وقد ولدت ميتةً، بسبب صراع الزعامات المتضخمة، وضعف مبدئيتها، وجنوحها إلى البراغماتية السياسية التي كثيرا ما تستحيل نهما سياسيا غير محمود، في شكل مواقف متناقضة ومتضاربة، تفتقر للثبات والاستمرارية، وتخفي ارتباكا وارتباطاتٍ لا تخلو من شبهات.
لا أحد يغبط مكونات الاتحاد المدني حقهم في الائتلاف والاتحاد والتكتل والتجمع، لأجل خوض
تناقضات كثيرة ومفارقات مستعصية على الفهم، تستدعي فك ألغازها في تجربة الاتحاد، من أبرزها الاختلاط بين أحزاب ذات رصيد نضالي ومواقف راديكالية، قادمة من رحم التاريخ ومقاومة الاستبداد، على قلّتها، أمثال حزب العمل الوطني الديمقراطي والحزب الجمهوري، وأخرى لم تتذوق يوما طعم النضال السياسي، ولم تكتو بمعاناته وسجونه ومعتقلاته ومجمل عذاباته من تفكيك أسري، وطرد تعسفي من العمل، وتجنيد إجباري، ومراقبة إدارية، وحرمان الأطفال من حقهم في الدراسة، على شاكلة حزبي البديل التونسي وآفاق تونس، وثالثة ذات خلفية وانتماء دستوري - تجمعي راسخ، مثل المبادرة ومشروع تونس. والمفارقة الأهم الازدواجية في انتماء مكونات الاتحاد لكل من السلطة والمعارضة في الآن نفسه، حتى أن حزب المبادرة ينتمي نوابه إلى كتلة حزب نداء تونس البرلمانية، وله تمثيل في الحكومة من خلال حقيبة وزارة المرأة والطفولة، في حين يتصدّر أمينه العام اجتماعات الاتحاد المدني وندواته الصحافية.
بعض مكونات الاتحاد أحزاب منشقة عن حزب نداء تونس الحاكم، يتزعّمها شخوص زاولوا الحكم، وتولوا مناصب عالية في فريق الرئيس الباجي قائد السبسي، عند بداية ولايته الرئاسية، وأيدوا الحكومات المتعاقبة التي شكلها كل من الحبيب الصيد ويوسف الشاهد، ومنحوها الثقة، حتى بعد ظهور أحزابهم الخاصة، واختاروا منذ فترة قصيرة القفز من سفينة الحكم وداعميه قبل غرقها، مصنفين أنفسهم ضمن المعارضة، وذلك لكسب جمهور انتخابي، بعد الفشل الذريع لتلك الحكومات، والعجز عن تحقيق أي من الوعود الانتخابية، من قبيل توفير 400 ألف موطن شغل، وتوفير125 مليار دينار لموازنة الدولة وبرامجها التنموية عند نهاية المدة النيابية التي انطلقت سنة 2014. والحال أنهم أنهكوا الدولة التي حققت، في فترة حكمهم، نسبة قياسية من المديونية، بلغت 71% من الناتج الوطني الخام، من دون الديون الداخلية. ومن شروط الانتماء إلى المعارضة إيداع مطلب في الغرض في مجلس نواب الشعب، وعدم التصويت للحكومة بالنسبة للأحزاب البرلمانية، الأمر الذي تفتقده أحزاب الاتحاد المدني، ناهيك أن تكون بعض أحزب الاتحاد الأخرى جزءا من الحكومة نفسها، ما يفقد هذا التجمع الحزبي الانتخابي
الاتحاد المدني الذي يقدم نفسه بديلا للائتلاف الحاكم الندائي - النهضوي، الذي أظهر فشلا غير مسبوق في إدارة الدولة، وتحقيق أدنى المطالب الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين، يكرّر، في نسخة رديئة، تجربة "نداء تونس"، قبل أن يتحالف مع عدوه اللدود، أو هكذا كان هذا الحزب يقدم نفسه، فهو لم ينتج خطابا سياسيا جديدا، أو برامج اقتصادية واجتماعية متمايزة، أو حتى شعارات مختلفة عما سوّق له "نداء تونس" في حملته الانتخابية سنة 2014، من قبيل المدنية والحداثة، وهي كلمات باتت ممجوجةً، ولم يعد لها معنى في القاموس السياسي التونسي، بعد تحالف الندائيين الحداثيين غربيي الهوى مع حركة النهضة الدينية قروسطية الانتماء.
وتتكرر مستويات التعبئة الانتخابية في نسختها لسنة 2014 التي تقوم على قاعدة التصويت الناجع، وقطع الطريق أمام حركة النهضة الرجعية التي لم يجدوا حرجا في التحالف معها، والجلوس مع وزرائها جنبا إلى جنب، والتماهي معها في التصويت تحت قبّة البرلمان. والحال أن التاريخ لا يعيد نفسه، وإن أعاد نفسه ففي شكل مهزلةٍ أو ملهاةٍ، كما هو مثبت ماركسيا.
انتبه مؤسسو الاتحاد المدني إلى الهنات وعناصر الضعف المشار إليها في تجاربهم المنفردة، وفي تجربتهم متجمّعين، فجاء بيانهم الصادر يوم 23 يناير/ كانون الثاني المنقضي، بمناسبة تأسيس ائتلافهم بمنمق الكلام ومعسوله، داعين إلى "يقظة المجتمع ضد عودة الهيمنة والتسلّط وتكريس التعدّدية السياسية القائمة على التوازن والتنافس، وتثبيت أسس دولة القانون ودعم انخراط القوى الحيّة في وضع أسس حوكمة رشيدة والحرص على وضع حد لتشتت القوى الديمقراطية"، إلا أن ذاكرة النخب السياسية ما زالت تستحضر تجربة جبهة الإنقاذ والتقدم التي أسسها بعضٌ من مكونات الاتحاد المدني، مثل أحزاب مشروع تونس والعمل الوطني وتونس أولا، في نهاية شهر إبريل/ نيسان سنة 2017، وهي مكونات رئيسية في التجربة الجديدة، وقد ولدت ميتةً، بسبب صراع الزعامات المتضخمة، وضعف مبدئيتها، وجنوحها إلى البراغماتية السياسية التي كثيرا ما تستحيل نهما سياسيا غير محمود، في شكل مواقف متناقضة ومتضاربة، تفتقر للثبات والاستمرارية، وتخفي ارتباكا وارتباطاتٍ لا تخلو من شبهات.