04 نوفمبر 2024
تونس... الحرية وتقارير دولية
يتصيد خصوم الثورة التونسية من الداخل والخارج أي احتقان، أو توتر تشهده البلاد، لاستعماله حجة لرجم الثورة، وتبخيس منجزها، وتخويف الشعوب العربية منها، وهي التي تعاطفت يوما ما مع الثورة، ورجت سرا أو علنا أن تكون له ما يماثلها.
بقطع النظر عن التقارير المتعلقة بالحريات وحقوق الإنسان التي صدرت، أخيرا، التي تثني على تونس، وتعتبرها استثناء وحيدا في العالم العربي، لكونها دولة حرة، على الرغم من تراجعها النسبي في بعض المؤشرات. وبقطع النظر أيضا عن التحفظات التي تصدر من هنا وهناك بشأن دقة تلك المؤشرات، ومدى موضوعيتها، وهي تحفظاتٌ يمكن أن نتفهمها، فإن لا أحد يستطيع أن ينكر على التونسيين تلك السماء الكاملة من الحرية التي نص عليها الدستور، ورعتها القوانين الني شرعها مجلس نواب المنتخب انتخابا حرا ونزيها، شهدت بسلامته أعرق المنظمات المعنية بمراقبة الانتخابات. غير أن هذه الحريات التي حمت الحقوق الأساسية، على غرار حرية التعبير والضمير، فضلا عن أن التعدّدية الحزبية واستقلالية المجتمع المدني لم تكونا هدية زعيم ملهم، أو عبقري، فذ أو قائد مصلح، كما أنهما لم تأت على ظهر دبابة أو بيان رقم واحد يُتلى عبر إذاعة محاصرة، إنما كانت هدية ثورة شعبية، أطلقها شباب عانى الحرمان والتهميش. ثورة جاءت من حيث لم يتوقع العالم، ففاجأت الجميع، نخبا وأنظمة.
لا يخجل بعضهم، حين يعمدون إلى مقارنة وضع الحريات حاليا بما كان عليه في عهد المخلوع بن علي، الذي سجلت في فترته أفظع الانتهاكات، وامتلأت السجون، واختفى المعارضون ونفي آلاف منهم، من دون أن نرى للذين يأسفون لما آل إليه وضعنا، موقفا مشرفا، بل لقد ساندوا النظام من خلال ما أغدقوا عليه من أموال ودعاية خلال نحو ثلاثة عقود، هو الذي كان لهم شريكا في مشاريعهم الفاسدة والمشبوهة.
لا ندّعي أننا، في تونس، ننافس أعرق الديموقراطيات، ولا يعنينا التفاخر، فبضاعتنا صنعناها
بأنفسنا لأنفسنا تحديدا. ولكن لا يمكن لعاقل أن ينكر أننا على صعيد الحرية أفضل من غيرنا، وأفضل بكثير مما كنا عليه مع المخلوع، بل المقارنة لا تجوز أصلا. صودرت الحريات، ومنعت الكتب، وحجزت المنشورات، فضلا على منع تشكل الأحزاب الحرّة والمنظمات المستقلة. الحرية لا تهدى، لكنها تفتك، وقد يحدث أحيانا أن يتنازل المستبد لحكمةٍ، أو خشيةٍ، أو حسن تقدير، فيتنازل المستبد تدريجيا لفائدة الحرية، حتى تتسع دائرتها، وتصبح سماء واسعة، تحلق فيها عقول الناس ومهجهم، من دون مانع أو رقيب سوى ضمائرهم وقناعاتهم وإحساسهم المرهف بإنسانيتهم ومواطنيتهم. وحتى هذا السيناريو الألطف، نادرا ما حدث في بلداننا، ما جعلها محميات معزولة تستعصي على "الدمقرطة" التي يتجه إليها العالم حاليا.
عرفت تونس خلال السبع سنوات الماضية التي تلت سقوط النظام الدكتاتوري هزّاتٍ وانتفاضات اجتماعية، وربما ناجمة تحديدا عن إخفاق حكومات الثورة عن حل معضلة البطالة والفوارق المجحفة بين الجهات، ما حدا بعضهم إلى التبرم بالثورة ذاتها التي وإن منحت الناس تلك المساحات الشاسعة من الحرية، فإنها أرهقت عليهم معاشهم. لم يكن حال الناس أفضل، حتى في هذه المسائل، ولم تكن تونس دولة رفاه فيها رغد من العيش. وكان الخوف يعقد الألسن، لذلك لم يعبروا عن سخطهم هذا بأي شكل، حتى بعرائض لطيفة كانت تقود أصحابها إلى التنكيل بهم. ومع ذلك لا أحد يستكثر على شعبنا أن يعبر عن غضبه.
تقارير المنظمات الدولية الإيجابية لا تمنح تونس شهادة أبدية، تستحسن المنجز في مجال
الحريات، بل تشير، في الوقت نفسه، إلى تأخر بثماني نقاط مقارنة بالسنة الفارطة، ما يعود، حسب التقارير نفسها، إلى جملة من الأخطاء، لعل أهمها سن قانون المصالحة الإدارية الذي تنازل عن محاسبة الفاسدين ومقاضاتهم (من النظام القديم)، علاوة على تعثر الخطوات في مجال ترسيخ الحريات ودعمها، خصوصا حين ندرك أن الهيئات الدستورية لم تر النور بعد، ولعل أهمها المحكمة الدستورية التي من صلاحياتها إسقاط القوانين المخالفة للدستور.
وبقدر ما تثني هذه التقارير على تونس، فإنها تدق ناقوس الخطر أيضا (تقرير مجموعة الأزمات الدولية/ بلجيكا)، حين تنبه إلى الانحراف الذي عرفته البلاد أخيرا: إيقافات عشوائية طاولت نحو ألف فرد بتهم التخريب، خلال الحركات الاحتجاجية أخيرا. التباس الدولة بالحزب مجددا، هرسلة أمنية وقضائية للناشطين الحقوقيين والمدونين إلخ.. لذلك، تظل معركة الحرية قائمة، لأنها ضد الاستبداد الذي قد يحن إليه بعضهم، فيوقظون عفاريته، ونحن في غفلة عنه ما زالت قائمة.
سيكون مهما الحفاظ على الحرية، وهي المكسب الوحيد الذي ربما يجمع عليه التونسيون، باعتباره هدية الثورة التي تمتع بها أنصار الثورة كما خصومها، ولربما استفاد منها هؤلاء أكثر من غيرهم، فقد انقلبوا عليها باسم الحرية وعادوها، متمترسين بما أتاح لهم القانون نفسه من حصانة، ففي هذا المناخ من الحرية، نشط هؤلاء، وشكلوا لوبيات ضغط في تحالفٍ مع المال الفاسد والإعلام الفاقد للنزاهة، من أجل إعادة النظام القديم.
بقطع النظر عن التقارير المتعلقة بالحريات وحقوق الإنسان التي صدرت، أخيرا، التي تثني على تونس، وتعتبرها استثناء وحيدا في العالم العربي، لكونها دولة حرة، على الرغم من تراجعها النسبي في بعض المؤشرات. وبقطع النظر أيضا عن التحفظات التي تصدر من هنا وهناك بشأن دقة تلك المؤشرات، ومدى موضوعيتها، وهي تحفظاتٌ يمكن أن نتفهمها، فإن لا أحد يستطيع أن ينكر على التونسيين تلك السماء الكاملة من الحرية التي نص عليها الدستور، ورعتها القوانين الني شرعها مجلس نواب المنتخب انتخابا حرا ونزيها، شهدت بسلامته أعرق المنظمات المعنية بمراقبة الانتخابات. غير أن هذه الحريات التي حمت الحقوق الأساسية، على غرار حرية التعبير والضمير، فضلا عن أن التعدّدية الحزبية واستقلالية المجتمع المدني لم تكونا هدية زعيم ملهم، أو عبقري، فذ أو قائد مصلح، كما أنهما لم تأت على ظهر دبابة أو بيان رقم واحد يُتلى عبر إذاعة محاصرة، إنما كانت هدية ثورة شعبية، أطلقها شباب عانى الحرمان والتهميش. ثورة جاءت من حيث لم يتوقع العالم، ففاجأت الجميع، نخبا وأنظمة.
لا يخجل بعضهم، حين يعمدون إلى مقارنة وضع الحريات حاليا بما كان عليه في عهد المخلوع بن علي، الذي سجلت في فترته أفظع الانتهاكات، وامتلأت السجون، واختفى المعارضون ونفي آلاف منهم، من دون أن نرى للذين يأسفون لما آل إليه وضعنا، موقفا مشرفا، بل لقد ساندوا النظام من خلال ما أغدقوا عليه من أموال ودعاية خلال نحو ثلاثة عقود، هو الذي كان لهم شريكا في مشاريعهم الفاسدة والمشبوهة.
لا ندّعي أننا، في تونس، ننافس أعرق الديموقراطيات، ولا يعنينا التفاخر، فبضاعتنا صنعناها
عرفت تونس خلال السبع سنوات الماضية التي تلت سقوط النظام الدكتاتوري هزّاتٍ وانتفاضات اجتماعية، وربما ناجمة تحديدا عن إخفاق حكومات الثورة عن حل معضلة البطالة والفوارق المجحفة بين الجهات، ما حدا بعضهم إلى التبرم بالثورة ذاتها التي وإن منحت الناس تلك المساحات الشاسعة من الحرية، فإنها أرهقت عليهم معاشهم. لم يكن حال الناس أفضل، حتى في هذه المسائل، ولم تكن تونس دولة رفاه فيها رغد من العيش. وكان الخوف يعقد الألسن، لذلك لم يعبروا عن سخطهم هذا بأي شكل، حتى بعرائض لطيفة كانت تقود أصحابها إلى التنكيل بهم. ومع ذلك لا أحد يستكثر على شعبنا أن يعبر عن غضبه.
تقارير المنظمات الدولية الإيجابية لا تمنح تونس شهادة أبدية، تستحسن المنجز في مجال
وبقدر ما تثني هذه التقارير على تونس، فإنها تدق ناقوس الخطر أيضا (تقرير مجموعة الأزمات الدولية/ بلجيكا)، حين تنبه إلى الانحراف الذي عرفته البلاد أخيرا: إيقافات عشوائية طاولت نحو ألف فرد بتهم التخريب، خلال الحركات الاحتجاجية أخيرا. التباس الدولة بالحزب مجددا، هرسلة أمنية وقضائية للناشطين الحقوقيين والمدونين إلخ.. لذلك، تظل معركة الحرية قائمة، لأنها ضد الاستبداد الذي قد يحن إليه بعضهم، فيوقظون عفاريته، ونحن في غفلة عنه ما زالت قائمة.
سيكون مهما الحفاظ على الحرية، وهي المكسب الوحيد الذي ربما يجمع عليه التونسيون، باعتباره هدية الثورة التي تمتع بها أنصار الثورة كما خصومها، ولربما استفاد منها هؤلاء أكثر من غيرهم، فقد انقلبوا عليها باسم الحرية وعادوها، متمترسين بما أتاح لهم القانون نفسه من حصانة، ففي هذا المناخ من الحرية، نشط هؤلاء، وشكلوا لوبيات ضغط في تحالفٍ مع المال الفاسد والإعلام الفاقد للنزاهة، من أجل إعادة النظام القديم.