21 أكتوبر 2024
تونس: ازدراء السياسة والسياسيين
على غير العادة، لا تثير المشاورات الحالية في تونس، بشأن تغيير شامل محتمل لحكومة الحبيب الصيد في مناخ اقتصادي وسياسي كارثي، كما يصر على وصفه، أخيراً، أكثر الخبراء حياداً وتفاؤلاً، على غرار محافظ البنك المركزي مثلاً، أي فضول لدى الأوساط العريضة من التونسيين، ولا حتى مجرد الرغبة في المتابعة، على خلاف كل التحويرات الحكومية السابقة التي حبست أنفاس التونسيين، أسابيع بل أشهراً عديدة. فحالياً، هم منصرفون إلى شؤونهم الصغرى: وصفة أكلتهم الرمضانية المفضلة وعناء اقتنائها لاحقاً، وبعض المسلسلات الرمضانية المحشوة ألفاظاً بذيئة وعنفاً. قد تكون مشاعر الإحباط والخيبات من المنجز العملي في مجال معاش الناس وحياتهم اليومية، وحالة الإنهاك التي هدّت الطبقات الوسطى، وتعاقب الحكومات بشكلٍ لم يتعوّد عليه التونسيون، ناهيك عن أزمة الثقة التي طاولت السياسيين، هي بعض ما يفسّر حالة اللامبالاة تلك، غير أن الأمر يعود، في اعتقادي، إلى تحلل الحقل السياسي وتفسّخه بشكل درامي.
هل ما يحدث في بلاد الاستثناء العربي كان ناجماً عما ارتكبناه جميعاً من أخطاء، سببها الاندفاع وغياب التجربة أم كان أمراً مدبّراً؟ يعسر أن نحسم الأمر، ولكن، ما لم نتوقعه هو أن تستفحل الأمور بهذا الشكل السريع، ونذهب أشواطاً قصية في اتجاه الانحدار.
تفسّخت حدود الحقل السياسي، وامحت تلك الأسيجة النفسية والذهنية، وحتى الرمزية التي كانت تميز الفاعلين، وتعطيهم طبيعة خاصة، لعدة أسبابٍ، لعل أهمها:
تأثيم الحقل السياسي وشيطنة الفاعلين فيه، إثر اكتشاف التونسيين، بعيد هروب المخلوع مباشرة، جبال الفساد الذي نخرت السياسة والسياسيين، غير أن النخب التي قدمت بعد الثورة عجزت، أمام أزمات الحكم والخيبات وبعض الأخطاء المرتكبة، عن تقديم ثقافةٍ جديدةٍ تعيد رسم الصورة، من أجل أن تكون أكثر نظافة وطهراً. بل وصل الأمر تحت الشيطنة السياسية والأخلاقية للحاكمين الجدد إلى حد الحنين إلى "فساد الماضي"، واعتباره أفضل من فساد الثورة وما بعدها.. كانت هناك رغبة مبيّتة في جر الجميع إلى "مستنقع السياسة الفاسدة"، حتى لا يظل فضل للحاكمين الجدد على سابقيهم، فهم في "الفساد سواء"، فجميع الساسة، حسب هذه الاستراتيجية الماكرة، مقامرون وسفهاء ومهربون، فضلا عن آلاف النعوت التي تمس شرف هؤلاء .. إلخ.
السبب الثاني متعلق بالملامح الجديدة للسياسيين الذين جاءت بهم الثورة، إذ اكتشفنا، وفي ظل
ثقافة الانتقال الديمقراطي المتعثرة وجاذبية البنى القديمة التي تمترس وراءها بعضهم، وانفتاح الإعلام على من هبّ ودبَّ، بحثا عن الإثارة وصنعاً "للنجوم السياسيين"، أن الانتخابات والصناديق قد تظلّ غير محصنة من الزلل والخطأ. دفعت تلك الصناديق، وتلك الشاشات أحياناً، بسياسيين مهرّجين وشحّاذين ومشعوذين وسفهاء، حتى غدوا مثاراً للسخرية. ثمّة، ولا شك، رغبة جامحة في التشفي منهم، والتنكيل بهم وإذلالهم، وإبرازهم للرأي العام باعتبارهم مسخرة. فقد هؤلاء الاحترام المفترض. لا أحد يمكن أن يتصور حالياً السياسيين، باعتبارهم كائنات سوية، فالصورة التي قدّمها الإعلام عن هؤلاء رثّة وبائسة، لا تثير، في أفضل الإحالات، إلا السخرية أو النقمة.
لم يفلح القادمون الجدد في تدوير النخب السياسية أو تجديدها بالشكل الجذّاب، حتى فتح الحقل السياسي على سياسيي المصادفة والمال الانتخابي وشبكات القرابة والجهويات المقيتة .. إلخ. ظلت الصناديق الانتخابية أحياناً طريقها. يعبّر التونسيون من الإعلاميين ومدمني المواقع الاجتماعية للتواصل عن هذه الثقافة الجديدة بمصطلح الفضيحة. راج لوصف كل ما يمكن أن يرتكبه السياسيون من أخطاء بسيطة أو كبيرة. الرغبة في فضح كل ما يمكن أن يرتكبه الساسة حقاً أو باطلاً من تجاوزاتٍ صغيرةٍ، أو كبيرة، يجعل الضحية أو المذنب مادة للفرجة والتشفي معاً، فكان لهما دور في تشويه تلك الصورة النبيلة عن السياسة والسياسيين، فكلهم، حسب تلك الأوساط، أصحاب فضائح ستكشف لاحقاً، وهم مذنبون ومتهمون في انتظار كشف فضائحهم.
وأخيراً، السبب الثالث والأهم في تلويث هذه الصورة وهتك الحقل السياسي هو دخول لاعبين جدد هم "ميتافاعلون"، يحرّكون، من فوق أحياناً، وعن بعد أحياناً أخرى، اللاعبين السياسيين المكشوفين، وهم بقايا الدولة العميقة ومراكز النفوذ ولوبيات المال والأعمال من كل صوب وحدب. استطاع هؤلاء أن يتّخذوا من اللاعبين السياسيين القدماء والجدد رهائن، حيث تنشط في هذه السوق السوداء كل الألاعيب، وتحولنا من ألعاب السياسة التي تخضع لقواعد وأعراف إلى ألاعيب السياسة، حيث تفتقد القيم القديمة، وتصبح عملةً بلا رصيد، تثير السخرية.
ربما يمثل التونسيون الشعب الوحيد الذي يلتهم سياسييه في برامج الكاميرا الخفية بشكلٍ فيه تنكيل وتشفّ كثيران. ولكن، يحدُث ذلك كله لفائدة "غير سياسيين" يفعلون السياسة بشكل آخر. إجلاء الناس عن السياسة أمر خطير، لأنه يفسح المجال أمام فاعلين من نوع آخر، للاستفراد بتقرير مصير البلاد، من دون أن يحملوا صفة الحاكمين.
هل ما يحدث في بلاد الاستثناء العربي كان ناجماً عما ارتكبناه جميعاً من أخطاء، سببها الاندفاع وغياب التجربة أم كان أمراً مدبّراً؟ يعسر أن نحسم الأمر، ولكن، ما لم نتوقعه هو أن تستفحل الأمور بهذا الشكل السريع، ونذهب أشواطاً قصية في اتجاه الانحدار.
تفسّخت حدود الحقل السياسي، وامحت تلك الأسيجة النفسية والذهنية، وحتى الرمزية التي كانت تميز الفاعلين، وتعطيهم طبيعة خاصة، لعدة أسبابٍ، لعل أهمها:
تأثيم الحقل السياسي وشيطنة الفاعلين فيه، إثر اكتشاف التونسيين، بعيد هروب المخلوع مباشرة، جبال الفساد الذي نخرت السياسة والسياسيين، غير أن النخب التي قدمت بعد الثورة عجزت، أمام أزمات الحكم والخيبات وبعض الأخطاء المرتكبة، عن تقديم ثقافةٍ جديدةٍ تعيد رسم الصورة، من أجل أن تكون أكثر نظافة وطهراً. بل وصل الأمر تحت الشيطنة السياسية والأخلاقية للحاكمين الجدد إلى حد الحنين إلى "فساد الماضي"، واعتباره أفضل من فساد الثورة وما بعدها.. كانت هناك رغبة مبيّتة في جر الجميع إلى "مستنقع السياسة الفاسدة"، حتى لا يظل فضل للحاكمين الجدد على سابقيهم، فهم في "الفساد سواء"، فجميع الساسة، حسب هذه الاستراتيجية الماكرة، مقامرون وسفهاء ومهربون، فضلا عن آلاف النعوت التي تمس شرف هؤلاء .. إلخ.
السبب الثاني متعلق بالملامح الجديدة للسياسيين الذين جاءت بهم الثورة، إذ اكتشفنا، وفي ظل
لم يفلح القادمون الجدد في تدوير النخب السياسية أو تجديدها بالشكل الجذّاب، حتى فتح الحقل السياسي على سياسيي المصادفة والمال الانتخابي وشبكات القرابة والجهويات المقيتة .. إلخ. ظلت الصناديق الانتخابية أحياناً طريقها. يعبّر التونسيون من الإعلاميين ومدمني المواقع الاجتماعية للتواصل عن هذه الثقافة الجديدة بمصطلح الفضيحة. راج لوصف كل ما يمكن أن يرتكبه السياسيون من أخطاء بسيطة أو كبيرة. الرغبة في فضح كل ما يمكن أن يرتكبه الساسة حقاً أو باطلاً من تجاوزاتٍ صغيرةٍ، أو كبيرة، يجعل الضحية أو المذنب مادة للفرجة والتشفي معاً، فكان لهما دور في تشويه تلك الصورة النبيلة عن السياسة والسياسيين، فكلهم، حسب تلك الأوساط، أصحاب فضائح ستكشف لاحقاً، وهم مذنبون ومتهمون في انتظار كشف فضائحهم.
وأخيراً، السبب الثالث والأهم في تلويث هذه الصورة وهتك الحقل السياسي هو دخول لاعبين جدد هم "ميتافاعلون"، يحرّكون، من فوق أحياناً، وعن بعد أحياناً أخرى، اللاعبين السياسيين المكشوفين، وهم بقايا الدولة العميقة ومراكز النفوذ ولوبيات المال والأعمال من كل صوب وحدب. استطاع هؤلاء أن يتّخذوا من اللاعبين السياسيين القدماء والجدد رهائن، حيث تنشط في هذه السوق السوداء كل الألاعيب، وتحولنا من ألعاب السياسة التي تخضع لقواعد وأعراف إلى ألاعيب السياسة، حيث تفتقد القيم القديمة، وتصبح عملةً بلا رصيد، تثير السخرية.
ربما يمثل التونسيون الشعب الوحيد الذي يلتهم سياسييه في برامج الكاميرا الخفية بشكلٍ فيه تنكيل وتشفّ كثيران. ولكن، يحدُث ذلك كله لفائدة "غير سياسيين" يفعلون السياسة بشكل آخر. إجلاء الناس عن السياسة أمر خطير، لأنه يفسح المجال أمام فاعلين من نوع آخر، للاستفراد بتقرير مصير البلاد، من دون أن يحملوا صفة الحاكمين.