دخلت تونس أزمةً سياسية جديدة، عنوانُها هذه المرة مصير حكومة إلياس الفخفاخ، بعدما اختارت حركة "النهضة" التخلي عنه، وإعلانها أول من أمس الإثنين قرارها تكليف رئيسها، ورئيس البرلمان، راشد الغنوشي، إجراء مشاورات مع رئيس الجمهورية قيس سعيّد ورؤساء الأحزاب للاتفاق على "بلورة حلٍّ يفضي إلى مشهدٍ حكومي بديل، ويُمكّن الخروج من الأزمة". لكن دفع "النهضة" باتجاه استبدال الفخفاخ، بعدما تعثر الاتفاق معه على توسيع الائتلاف الحكومي، فضلاً عن بروز شبهة تضارب المصالح التي تلاحق الأخير إثر كشف امتلاكه لأسهم في شركة عقدت صفقات مع دوائر رسمية، اصطدم باعتراض الرئيس التونسي فضلاً عن إعلان الفخفاخ نيته إجراء تغيير وزاري، ذهب البعض إلى أنه سيتضمن إقصاء وزراء "النهضة".
وتبدو مخارج الأزمة الراهنة غير واضحة، بسبب توازن القوى برلمانياً وحكومياً وعجز الأطراف المتنافسة عن حسم الموقف لأي منها. كما أن التطورات الأخيرة، وعلى الرغم من كونها ليست بجديدة على المشهد السياسي التونسي في مرحلة ما بعد الثورة، إلا أن تسارعها والظروف المحيطة بها تجعلان من منسوب الخطر مرتفعاً بما يضع تونس في مواجهة أصعب أيامها وذلك لأسباب متعددة. أولها الوضع العام في تونس، في ضوء ارتفاع منسوب الاحتجاجات الاجتماعية، خصوصاً في الجنوب، وتفاقم الأزمة الاقتصادية ما بعد فيروس كورونا وإمكانية فقدان كثيرين لمواطن شغلهم وإغلاق مؤسسات اقتصادية وارتفاع المديونية. ويضاف إلى كل ذلك تأزم الأوضاع الإقليمية وتدهور الأمن في ليبيا، مع ما يعنيه ذلك من انعكاسات اقتصادية وأمنية على تونس. والأهم في كل ذلك ما كان يمكن رصده في الآونة الأخيرة من زيادة شهية الأطراف الخارجية التي تريد إسقاط التجربة التونسية بأي ثمن، وتجد في تأزم الأوضاع السياسية والاجتماعية منفذاً لها وظرفاً مواتياً لزيادة ضرباتها، خصوصاً أنه يوجد في الداخل التونسي من يتقاطع معها في الأهداف ويتبنى مبدأ الإقصاء السياسي على الرغم من خطورته واستحالته. كذلك فإنه بدخول الاتحاد العام للشغل والرئاسة التونسية على خط الأزمة، يفقد التونسيون ملجأ كان متاحاً لفض خلافاتهم على طاولة الحوار، في وقت يحتاج فيه الخطاب السياسي المتشنج إلى ترشيد وتهدئة من قبل وسطاء محايدين.
معركة مفتوحة
وتفاعلت الأزمة خلال الساعات الثماني والأربعين الماضية، بعدما رد سعيّد على قرار "النهضة" أول من أمس، بإعلان رفضه التشاور حول التغيير الحكومي، دافعاً الجميع للتوجه إلى البرلمان، بتأكيده "تمسكه الكامل بالدستور"، وأنه "لن يقبل بأي مشاورات تتعلق بتشكيل حكومة جديدة ما دامت الحالية قائمة وكاملة الصلاحيات". وذكّر الرئيس التونسي بأن "المشاورات لا يمكن أن تحصل، إلا إذا قدّم رئيس الحكومة استقالته، أو سحبت الأغلبية المطلقة بمجلس نواب الشعب (البرلمان) الثقة منه"، وهو يعلم أن أيّ طرفٍ لا يملك الحسم في البرلمان، ما سيقود بالضرورة إلى تعميق الأزمة.
يدرك الفخفاخ أن محاولة إخراج النهضة من الحكم، لن تجدي، وأن حكومته آيلة للسقوط عاجلاً أم آجلاً
وعلى الرغم من ردّه على "النهضة"، إلا أن موقف الرئيس التونسي لا يزال غامضاً، لأنه اقتصر على الشقّ القانوني والدستوري، وأهمل الجانب السياسي، حيث يُفترض أن تكون مؤسسة الرئاسة جامعة ومحكّمة في الفصل بين الفرقاء، وأن يكون الرئيس ملجأ المختلفين. عوضاً عن ذلك، تخلى سعيّد بوضوح عن هذا الدور، مؤكداً أن الحكومة الحالية لا تزال كاملة الصلاحيات، على الرغم من شبهات "تضارب المصالح"، والتي ستضعف الفخفاخ سياسياً، حتى وإن برّأته التحقيقات.
بدوره اختار الفخفاخ المواجهة، عبر إعلان نيته إجراء تعديل وزاري، لتبرز فرضية إخراج الحركة من الحكم، مع علمه أيضاً بأن هذا السيناريو لا يجدي، لا سياسياً ولا برلمانياً، وأنه حتى في هذه الحالة، فإن حكومته آيلة للسقوط عاجلاً أم آجلاً.
ويتكون الائتلاف الحكومي الاضطراري الذي ذهب إليه الجميع تفادياً لحل البرلمان وإعادة الانتخابات من كل من حركة النهضة (54 نائباً)، والكتلة الديمقراطية (38 نائباً من التيار الديمقراطي وحركة الشعب)، وحزب تحيا تونس (الذي يرأسه يوسف الشاهد بـ 11 نائباً) ونواب من كتلتي الإصلاح (16 نائباً) والمستقبل (9 نواب) ومن غير المنتمين لكتل( يمثلون حاليا 16 نائباً). بينما يعارض الحكومة كل من قلب تونس (حالياً لديه 27 نائباً بعد أن انشقت عنه كتلة الوطنية المكونة من 11 نائباً) وكتلة ائتلاف الكرامة (19 نائباً) وكتلة الحزب الدستوري الحر (16 نائباً).
وإذا ما قرر الفخفاخ فعلياً أن يزيح وزراء "النهضة" ويعرض ذلك على البرلمان، فإنه سيكون مضطرا للجوء إلى نواب الدستوري الحر وغير المنتمين، بما يحمله ذلك من تداعيات سياسية على أحزاب تصنف في خانة أحزاب الثورة. في المقابل، سيكون على "النهضة" وقلب تونس وائتلاف الكرامة، إذا ما قرروا سحب الثقة من الحكومة الفخفاخ، أن يبحثوا عن مساندين لهم في غير المنتمين ومن بين كتلتي الإصلاح والمستقبل. وبموجب المادة 97 من الدستور التونسي، يشترط لسحب الثقة من الحكومة موافقة الأغلبية المطلقة من أعضاء المجلس (أي 109 أصوات من أصل 217، وتقديم مرشح بديل لرئيس الحكومة يُصادَق على ترشيحه في نفس التصويت، ويتمّ تكليفه من قبل رئيس الجمهورية بتكوين حكومة طبق أحكام الفصل 89.
أزمة مكررة
وتتجدد سيناريوهات أزمات الحكم في تونس بالطريقة نفسها تقريباً بين فترة وأخرى، مع تبدل فقط في المحركات والدوافع، وفي الأسماء. ويذكر التونسيون أزمة إبعاد رئيس الحكومة الأسبق الحبيب الصيد، التي حُسمت في اللحظات الأخيرة داخل البرلمان، ثم أزمة حكومة يوسف الشاهد، واليوم أزمة حكومة الفخفاخ. ويعكس هذا الواقع هشاشة كبيرة في أسلوب الحكم وتقاسم السلطات بين القوى السياسية، خصوصاً في النظام الانتخابي، وربما في السياسي ككل، حيث تفرز بعد كل انتخابات فسيفساء من الكتل البرلمانية التي تعطل بعضها بعضاً، كما تفرز تنافساً بين مؤسسات الدولة، الرئاسة والحكومة والبرلمان، وصراع تموقع مستمر وتنازع على الحكم وإدارة البلاد. ويحصل ذلك في مناخٍ من عدم الثقة بين الأطراف السياسية، وبقايا صراعات أيديولوجية قديمة، أهملت في طريقها ملفات الثورة المهمة واستحقاقات التونسيين، الذين ثاروا من أجلها، ما يدفع إلى التساؤل حول الأسباب العميقة للفشل المتكرر للحكومات المتعاقبة.
وتعليقاً على ذلك، رأى الأمين العام للحزب الجمهوري، عصام الشابي، أن أغلب حكومات تونس ما بعد الثورة، تشكلت من النخب المنتمية للمعارضة، وأثبتت أنها لم تكن مهيأة لقيادة البلاد وتسيير الدولة، مبيناً في حديث لـ"العربي الجديد"، أن تونس بعد الثورة "كانت في حالة وهن، ولم تحظ بمن نجح في إعادة تسييرها بروح جديدة، وسياسة تنمية مختلفة".
وأوضح الشابي أن "النخبة السياسية، في مختلف الحكومات، فشلت في هذا التحدي، لأن أغلبها كان معارضاً لنظام زين العابدين بن علي من موقع المقاومة الديمقراطية، وليس من باب الاستعداد للحكم وفق برامج ورؤيا واضحة". وبرأيه، أنه حتى بالنسبة إلى عملية الانتقال الديمقراطي، فإنها "تفترض التنافس على الحكم، وتعزيز الاتفاقات بين الجميع، إلا أن التوافق لم يحصل". ونتيجة ذلك، تحدث الأمين العام للحزب الجمهوري عن "سؤال يعود في كلّ مرة، وهو هل الديمقراطية التونسية يجب أن تكون جامعةً وتستوعب جميع الأطياف، ويجري التنافس داخلها على إدارة الدولة، أم هي ديمقراطية إقصائية تقوم على تيار دون آخر"، مؤكداً أن هذا الأمر لم يتمّ البت فيه، على الرغم من حسمه دستورياً، ووضع الأطر القانونية له، وعلاقة الأفراد ببعضهم وبالدولة".
أما الواقع، فإنه عملياً يشير بحسب الشابي إلى "العودة بعد كلّ انتخابات إلى الصراع ذاته"، الذي لا يعتبره "أيديولوجياً، لأنه سيكون حينها أكثر وضوحاً، ومبنياً على رفض الآخر"، واصفاً الإقصاء الحالي بـ"التهريج والبحث عن الإثارة، ما جعل جلّ الحكومات المتعاقبة تمر بظروف صعبة، وبحالات عدم استقرار كانت تحتاجه كي تنجح". واعتبر الشابي أن "هناك معادلة ضرورية، ما لم يقبل بها جميع الأطراف فسيبقى الانتقال السياسي رهينة التقلبات"، موضحاً أنه "بالنظر إلى موازين القوى والمشهد الانتخابي، تستحيل إدارة البلاد، من دون شراكة النهضة، لأنها القوة الكبرى". ودعا المسؤول الحزبي إلى ضرورة التعامل مع حركة "النهضة"، كـ"شريكٍ سياسي، وليس كعدو، وأن تلتقي معها باقي الأحزاب"، منتقداً الخطاب السائد حالياً، وهو "خطاب تبرؤ لا يؤسس للاستقرار". وفي ما يتعلق بـ"النهضة"، اعتبر أنه "لا بد أن تدرك الحركة أنها شريك أساسي في الحكم، لكنها ليست وحدها فيه، ولا يمكنها تسيير البلاد بمفردها أو وفق مزاجها، وهي قد فشلت في ذلك عام 2012، عندما حكمت وأصرت على تجاهل عدد من الحقائق، مزهوة بكونها الحزب الأول في تونس".
واعتبر الشابي أن "حسابات النهضة تتمثل في رغبتها في السيطرة على الحكم، ومحاولة إظهار نفسها بأنها مستهدفة، وأنه إذا ما خرجت من الحكم، فسيتم الانقلاب عليها وهضم حقوقها"، مشيراً إلى "السيناريو المصري الذي يلقي بظلاله على مخاوف الحركة". لكنه أكد أن مصداقية الحركة، وكذلك مصداقية الأحزاب الأخرى، في الميزان. ولمّح إلى وجود خطاب مزدوج لدى "النهضة"، فهي "من جهة، تريد إقالة الفخفاخ لتضارب المصالح، ومن جهة أخرى تريد التحالف مع قلب تونس الذي يواجه رئيسه قضايا تحقيق في الفساد، ما سيؤدي إلى خسارتها نقاطا وفقدانها جزءا من رصيدها من انتخابات إلى أخرى"، وهو ما يسري على بقية الأطراف.
وقال الشابي إن "تونس أمام مأزق خطير، وانفلات في العمل النيابي والسياسي، وتعطل لنشاط السلطة التنفيذية"، وهو واقع يستحيل استمراره، فالتنمية الداخلية معطلة والحدود مغلقة، بينما تخلت الدولة عن المناطق الحدودية". ورأى أن "السياسة الحالية هي كسر عظام، لكنها كسر عظام للدولة التونسية".
حرب توازنات ومعادلة جديدة؟
قد يكشف ظهور الأمين العام لاتحاد الشغل نور الدين الطبوبي عن معادلة جديدة ومحاولة لإقصاء النهضة
من جهته، رأى المحلل السياسي التونسي قاسم الغربي، أن حركة "النهضة" لم تعد تطالب بتوسيع قاعدة الحكومة فحسب، بل بتغيير رئيسها، وذلك نظراً لرغبتها الدائمة في إدخال حزب قلب تونس للحكم لضمان حليف لها، وإحداث توازنٍ مقابل التيار الديمقراطي وحركة الشعب". وأوضح الغربي في تصريح لـ"العربي الجديد"، أنه "في ظلّ ملف تضارب المصالح، وهو يبدو صحيحاً، تحاول الحركة استباق الضغط، في اتجاه أن يكون رئيس الحكومة المقبل من اختيارها هي ووقلب تونس". وأكد أنه بغضّ النظر عن رفض رئيس الجمهورية المشاورات، إلا أنه يبدو أن اتصالات سابقة جرت حول المسألة، وأن الرئيس لم يبد رفضاً للتغيير، لكنه كان واضحاً بأنه يريده بإطار قانوني ودون تفاوض في الغرف المغلقة، وهو ما لا يشكل رسالة طمأنة للفخفاخ على عكس ما فسّره البعض. وأقرّ المحلل السياسي أن رئيس الجمهورية "قد يكون تمسك حتى اللحظة الأخيرة بالفخفاخ، لكن التقارير تؤكد تضارب المصالح، ما يشكل ضربة للرئيس نفسه، ويجعله غير بعيد عن طرح التغيير، لكن بأسلوب مختلف عن النهضة".
أما عن أسباب عدم صمود غالبية الحكومات المتعاقبة بعد الثورة، فاعتبر الغربي أنه بالإمكان تبرير ذلك بنقص التجربة السياسية لمعظم الأطراف والأحزاب التي أمسكت بالسلطة، منذ الانتخابات التشريعية في العام 2011، إلا أن الحقيقة هي أن جميع هذه الأطراف، بما فيها النهضة والتيار الديمقراطي وحركة الشعب، لا تملك أي رؤيا أو برنامج للحكم".
وحول السيناريوهات المنتظرة، رأى أستاذ القانون الدستوري عبد الرزاق المختار، أن الوضع مفتوح على كل السيناريوهات، فالنهضة فتحت المواجهة مع رئيس الحكومة الذي يبدو أن الرئيس مال لصفّه". واعتبر المختار في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن من سيحدد إيقاع المواجهة، هو رئيس الجمهورية"، متحدثاً عن "مرحلة كسر عظم من الناحية السياسية، سيدفع أحد الأطراف ثمنها السياسي".
ورأى المختار أن "المنظومة الانتخابية بعد العام 2011، أنتجت حكومات غير قابلة للحكم، من دون أن تفرز أغلبيات قوية، ما جعلها منظومة ولاّدة للأزمات". وبالنسبة إليه، فإن "ظهور الأمين العام لاتحاد الشغل نور الدين الطبوبي قد يكشف عن معادلة جديدة"، متحدثاً عن فرضية "الاتجاه نحو إخراجٍ بالقوة للنهضة من الحكم، وبناء تحالفات على قاعدة حسابات غير معلومة". ووصف الخبير الدستوري هذا السيناريو بـ"الغبي والخطير، والذي لن يفرز أي رابح، بل سيعمق الأزمة، ويدفع البلاد، إما إلى انتخابات مبكرة، أو إلى المجهول سياسياً".