24 أكتوبر 2024
تونس... "الحقيقة والكرامة" في المشهد العام
ربما كانت هيئة الحقيقة والكرامة أحد أهم مخرجات الثورة التونسية، وأفضل تعبير عن التحول السياسي الذي شهدته تونس في مرحلتها الانتقالية، سواء من ناحية تعميق المسار الديمقراطي، أو من جهة التأكيد على القطيعة مع الماضي الاستبدادي الذي عرفته البلاد في عقود ماضية.
من الناحية القانونية، نشأت الهيئة بوصفها تجسيدا لما ورد في دستور ما بعد الثورة في تونس، حيث نصت المادة 148 منه بوضوح على أنه "تلتزم الدولة بتطبيق منظومة العدالة الانتقالية في جميع مجالاتها والمدة الزمنية المحددة بالتشريع المتعلق بها، ولا يقبل في هذا السياق الدفع بعدم رجعية القوانين، أو بوجود عفو سابق، أو بحجية اتصال القضاء أو بسقوط الجريمة أو العقاب بمرور الزمن". وقد تكفّل القانون الأساسي عدد 53، الصادر بتاريخ 24 ديسمبر/ كانون الأول 2013، بتفصيل مهام الهيئة، وتحديد صلاحياتها ومجالات نشاطها. ويمكن اختصار دورها في جوانب أساسية أهمها تفكيك منظومة الاستبداد ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات، وجبر الضرر للضحايا، وحفظ الذاكرة الوطنية ضمن الغاية الكبرى المتعلقة بإرساء ضماناتٍ تمنع عودة نظام الطغيان وإرساء أسس نظام ديمقراطي حقيقي.
وبقدر أهمية الأهداف التي تسعى إليها الهيئة، فقد مثلت سببا كافيا لاستهدافها من أطراف متعدّدة، تعتبر الهيئة خصما لها وتهديدا لوجودها السياسي. وقد بدأت مشكلات الهيئة، منذ وصول الرئيس الحالي، الباجي قائد السبسي، إلى الرئاسة، حيث تم منع الهيئة من نقل الأرشيف الرئاسي، على الرغم من التوصل إلى اتفاق لاحقا يسمح للهيئة بالنفاذ إلى هذا الأرشيف وقتما تشاء، ولم تتوقف محاولات تعطيل الهيئة ومنعها من إتمام عملها، حين تم التأثير على بعض أعضاء الهيئة، ودفعهم إلى الاستقالة، وكان الهدف التشكيك في شرعية الهيئة لاحقا، بدعوى عدم اكتمال نصابها، علما أن هذا الشغور مازال مستمرا.
وعلى الرغم من محاولات التعطيل هذه، تمكّنت الهيئة من مواصلة عملها، واستقبال ما يقارب 63 ألف ملف تتعلق بتجاوزات مختلفة في مجالات متعددة، منها السياسي والاقتصادي،
بالإضافة إلى سعي الهيئة إلى منح فرصة للقوى التي هُمّشت تاريخيا من أجل إبلاغ صوتها، وتقديم قراءتها للأحداث (خصوصا من اليوسفيين الذين تم استبعادهم سنوات حكم بورقيبة وما تلاها) وهو أمر أثار حفيظة بعض القوى المتنفذة في الإعلام والسياسة، من أجل شن حملة منسقة على عمل الهيئة، واتهامها بالتدخل في ما ليس من مشمولاتها، على الرغم من أن القانون الأساسي الذي أقر إنشاءها يعلن بوضوح عن أهمية دورها في حفظ الذاكرة الوطنية.
وبعد الصراعات المختلفة حول ملفات الذاكرة الوطنية، جاءت خطوة الهيئة بشأن قضية المصالحة الاقتصادية، الأمر الذي أثار حفيظة الحزب الحاكم حاليا، نداء تونس، الذي يدعم مشروعا للمصالحة الاقتصادية الشاملة، قدمه الرئيس السبسي خارج أطر العدالة الانتقالية، والتي تمثل هيئة الحقيقة والكرامة أهم تجسيد لها.
وعلى الرغم من الضغوط المختلفة، تمكنت هيئة الحقيقة والكرامة من الصمود، بل واستطاعت أن تصبح عاملا مؤثرا في توجيه الرأي العام، وهو أمر تثبته نسب المشاهدة الكبيرة التي تحققها جلسات الاستماع العلنية التي تبثها قنوات تلفزيونية وإذاعية. وتتضمن الجلسات شهادات مؤثرة بشأن انتهاكات مريعة لحقوق الأفراد والجماعات زمن الاستبداد، الأمر الذي ينسف، في أحيان كثيرة، الجهد المضاعف الذي تبذله أجهزة إعلام وقوى متنفذة سياسيا من أجل تبييض صورة النظام السابق، ومنحه صك براءة من الجرائم التي اقترفها بحق الشعب عقوداً.
ومن الموضوعية القول إن الضغوط على الهيئة لتعطيل عملها ولشيطنتها وتصويرها خطراً يهدّد الوحدة الوطنية ليست قليلة، ولا ظرفية، وإنما هي حملات تتميز بأنها متواصلة ومركزة، وتصل إلى حد التشويه الشخصي، والتشكيك في نيات أعضاء هيئة الحقيقة والكرامة، وفي
مقدمة هؤلاء رئيستها سهام بن سدرين. وهنا، تنبغي الإشارة إلى أن رئيسة الهيئة تتمتع بشخصية قوية وقدرة على مواجهة الصعوبات، والتعامل مع الضغط المسلط على الهيئة، من دون تقديم أدنى تنازلات، وقد ساعدها في موقفها هذا خلفيتها النضالية زمن الاستبداد. فمهمة الهيئة التي تجمع بين كشف الحقيقة والدفع نحو محاسبة المتورطين، وفي الوقت نفسه، حفظ الذاكرة الوطنية، يجعلها تقوم بدور محوري في عملية الانتقال الديمقراطي، بل تمثل ضمير المرحلة الانتقالية، خصوصا إذا أخذنا بالاعتبار المحاولات المحمومة لدى بقايا النظام السابق لاستعادة نفوذهم الضائع، وتلميع ماضيهم المظلم، أو على الأقل السعي نحو إلغاء الذاكرة الوطنية، ودفع عموم الناس نحو التغاضي عن جرائم سنوات الطغيان المظلمة.
وعلى الرغم من أن التجربة التونسية في العدالة الانتقالية، كما تجسدها هيئة الحقيقة والكرامة، ليست الأولى من نوعها في العالم، وحتى في المنطقة العربية، غير أنها تتميز عن غيرها بأنها لا تستهدف فئة محددة (مثلما حصل في التجربة العراقية في هيئة اجتثاث البعث)، كما أنها لا تجري في ظل استمرارية ذات النظام الذي وقعت في عهده التجاوزات (مثلما الحال مع التجربة المغربية)، وإنما نحن أمام هيئة رسمية مستقلة، تتمتع بكل الصلاحيات، من أجل إرساء ضمانات ووضع ثوابت حقوقية، تمنع تكرار تجربة الاستبداد وانتهاك حقوق الإنسان، في ظل تونس الجديدة، وهنا أهمية الهيئة وتأثيرها على المشهد التونسي العام حاضرا ومستقبلا.
من الناحية القانونية، نشأت الهيئة بوصفها تجسيدا لما ورد في دستور ما بعد الثورة في تونس، حيث نصت المادة 148 منه بوضوح على أنه "تلتزم الدولة بتطبيق منظومة العدالة الانتقالية في جميع مجالاتها والمدة الزمنية المحددة بالتشريع المتعلق بها، ولا يقبل في هذا السياق الدفع بعدم رجعية القوانين، أو بوجود عفو سابق، أو بحجية اتصال القضاء أو بسقوط الجريمة أو العقاب بمرور الزمن". وقد تكفّل القانون الأساسي عدد 53، الصادر بتاريخ 24 ديسمبر/ كانون الأول 2013، بتفصيل مهام الهيئة، وتحديد صلاحياتها ومجالات نشاطها. ويمكن اختصار دورها في جوانب أساسية أهمها تفكيك منظومة الاستبداد ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات، وجبر الضرر للضحايا، وحفظ الذاكرة الوطنية ضمن الغاية الكبرى المتعلقة بإرساء ضماناتٍ تمنع عودة نظام الطغيان وإرساء أسس نظام ديمقراطي حقيقي.
وبقدر أهمية الأهداف التي تسعى إليها الهيئة، فقد مثلت سببا كافيا لاستهدافها من أطراف متعدّدة، تعتبر الهيئة خصما لها وتهديدا لوجودها السياسي. وقد بدأت مشكلات الهيئة، منذ وصول الرئيس الحالي، الباجي قائد السبسي، إلى الرئاسة، حيث تم منع الهيئة من نقل الأرشيف الرئاسي، على الرغم من التوصل إلى اتفاق لاحقا يسمح للهيئة بالنفاذ إلى هذا الأرشيف وقتما تشاء، ولم تتوقف محاولات تعطيل الهيئة ومنعها من إتمام عملها، حين تم التأثير على بعض أعضاء الهيئة، ودفعهم إلى الاستقالة، وكان الهدف التشكيك في شرعية الهيئة لاحقا، بدعوى عدم اكتمال نصابها، علما أن هذا الشغور مازال مستمرا.
وعلى الرغم من محاولات التعطيل هذه، تمكّنت الهيئة من مواصلة عملها، واستقبال ما يقارب 63 ألف ملف تتعلق بتجاوزات مختلفة في مجالات متعددة، منها السياسي والاقتصادي،
وبعد الصراعات المختلفة حول ملفات الذاكرة الوطنية، جاءت خطوة الهيئة بشأن قضية المصالحة الاقتصادية، الأمر الذي أثار حفيظة الحزب الحاكم حاليا، نداء تونس، الذي يدعم مشروعا للمصالحة الاقتصادية الشاملة، قدمه الرئيس السبسي خارج أطر العدالة الانتقالية، والتي تمثل هيئة الحقيقة والكرامة أهم تجسيد لها.
وعلى الرغم من الضغوط المختلفة، تمكنت هيئة الحقيقة والكرامة من الصمود، بل واستطاعت أن تصبح عاملا مؤثرا في توجيه الرأي العام، وهو أمر تثبته نسب المشاهدة الكبيرة التي تحققها جلسات الاستماع العلنية التي تبثها قنوات تلفزيونية وإذاعية. وتتضمن الجلسات شهادات مؤثرة بشأن انتهاكات مريعة لحقوق الأفراد والجماعات زمن الاستبداد، الأمر الذي ينسف، في أحيان كثيرة، الجهد المضاعف الذي تبذله أجهزة إعلام وقوى متنفذة سياسيا من أجل تبييض صورة النظام السابق، ومنحه صك براءة من الجرائم التي اقترفها بحق الشعب عقوداً.
ومن الموضوعية القول إن الضغوط على الهيئة لتعطيل عملها ولشيطنتها وتصويرها خطراً يهدّد الوحدة الوطنية ليست قليلة، ولا ظرفية، وإنما هي حملات تتميز بأنها متواصلة ومركزة، وتصل إلى حد التشويه الشخصي، والتشكيك في نيات أعضاء هيئة الحقيقة والكرامة، وفي
وعلى الرغم من أن التجربة التونسية في العدالة الانتقالية، كما تجسدها هيئة الحقيقة والكرامة، ليست الأولى من نوعها في العالم، وحتى في المنطقة العربية، غير أنها تتميز عن غيرها بأنها لا تستهدف فئة محددة (مثلما حصل في التجربة العراقية في هيئة اجتثاث البعث)، كما أنها لا تجري في ظل استمرارية ذات النظام الذي وقعت في عهده التجاوزات (مثلما الحال مع التجربة المغربية)، وإنما نحن أمام هيئة رسمية مستقلة، تتمتع بكل الصلاحيات، من أجل إرساء ضمانات ووضع ثوابت حقوقية، تمنع تكرار تجربة الاستبداد وانتهاك حقوق الإنسان، في ظل تونس الجديدة، وهنا أهمية الهيئة وتأثيرها على المشهد التونسي العام حاضرا ومستقبلا.