كانت تونس تبدو بعيدة، بعيدة جداً. بلد عربي، لكنه في الجزء الآخر من العالم. التونسيون هم هؤلاء الذين يتكلمون لهجة عربية لا نفهمها، ونفضل محادثتهم بالفرنسية.
ثمّ كان محمد بو عزيزي. شاب يشبهنا جميعاً: يائسون من أي مستقبل مشرق في بلادنا، ولاعنون لبقعة جغرافية ولدنا وعلقنا فيها. ببساطة أضرم البائع الفقير النار في نفسه. وانتهى. انتهت حياته، وكان يمكن للقصة أن تنتهي بتعويض مالي من زين العابدين بن علي لعائلته. لكن نهاية القصة لم تكن قد كتبت بعد. أو الأدق أنها لم تكن قد بدأت بعد.
في بيروت، ظل الخبر التونسي ثانوياً. "أضرم شاب تونسي النار في نفسه احتجاجاً على...". طيّب.
في اليوم الثاني: "احتجاجات في شوارع تونس". وكانت الثورة.
فجأة وجد اللبنانيون أنفسهم مرتبطين بذلك البلد العربي. للمرة الأولى تعيد تونس الشباب اللبنانيين إلى علاقتهم مع محيطهم العربي. هؤلاء الذين ولدوا منتصف الحرب الأهلية أو بعدها، لم يعرفوا من العالم العربي سوى فلسطين وسورية. ولاحقاً دول الخليج التي قصدوها باحثين عن فرص حياة أفضل.
لكن هذه المرة كانت تونس مختلفة. أجلست الكثيرين أمام الشاشات، ينتظرون الأخبار. ثم اشتعلت في مصر، بدا أن مستقبل جيل عربي كامل يتغيّر. لم نعد (جيلنا) فقط "ورثة جيل النكسة"، أخبرنا بو عزيزي أن مستقبلنا مختلف. يمكن أن يكون مختلفاً بالحدّ الأدنى. وأن الدكتاتوريات تسقط، يمكن أن تسقط بالحدّ الأدنى.
"عندما كنا صغاراً كان أبي يخبرنا قصصاً عن جمال عبد الناصر، وعن المؤامرة التي أدت إلى النكسة. عبد الناصر كان بطلاً عربياً بالنسبة لكثير من اللبنانيين، نحن بطلنا حقيقي أكثر، بطل جيلنا، شاب يحرق نفسه ليعيش بكرامة، من دون خطابات رنانة" يقول ريان رعد (28 سنة).
يقال إن كل الأجيال تحتاج إلى رموز. كل الأجيال العربية تحديداً. ووجد لبنانيون كثر ضالتهم بوجوه ارتبط اسمها بالربيع العربي: البوعزيزي على رأس القائمة. الشاب قصّر المسافة بين تونس وبيروت. يحتفل شباب بذكرى إطلاقه الشرارة الأولى للثورة، يرفع آخرون صوره، يضعونها على حساباتهم على مواقع التواصل.
لكن المشهد ليس وردياً تماماً... منهم من يقول بيأس مصدره سواد المشهد اللبناني: "حرق نفسه كرمال مين؟ مش جماعة بن علي راجعين عَ الحكم؟" تقول مروى الأسدي، وتضيف: "كله عَ الفاضي". وتقارن بين ما فعله بو عزيزي وبين نزول اللبنانيين في 14 مارس/آذار 2005 رفضاً للاحتلال السوري للبنان، "ظننا أننا نصنع التاريخ، اتضح أن التاريخ يلعب بنا فقط".
العلاقة الملتبسة، تنطلق من واقع لبناني ملتبس، ومن انقسام حول النظرة للثورات العربية، ومن يأس يختفي ويعود، ثم يختفي ويعود. لكن الأكيد أن المياه الراكدة، والتي لا تتحرك عادة إلا بنيران طائفية، حركها بوعزيزي. وهذا وحده كفيل بقليل من التفاؤل.