تونسيون يعانون بعد حوادث سير

01 ديسمبر 2019
لا بدّ من أنّ الضحايا كثر (فتحي بلعيد/فرانس برس)
+ الخط -

تُعَدّ حوادث السير من بين الصدمات التي قد يتعرّض لها المرء في حياته، لا سيّما إذا كانت من تلك التي توصف بـ"المروّعة" وتخلّف الموت. فتجربة يشعر في خلالها الواحد منّا بأنّ حياته سوف تنتهي بعد لحظات ليست بأمر بسيط عابر، لا بل قد تؤثّر سلباً في حياتنا، خصوصاً في حال تجاهلنا ما تعرّضنا إليه أو تبعاته.

محمد، تونسي في الثلاثينيات من عمره، تعرّض قبل نحو عامَين لحادثة سير في تونس، عندما انقلبت حافلة النقل العمومي التي كان يستقلّها مع عدد من الأشخاص. يخبر محمد، الذي تحفّظ عن ذكر شهرته، "العربي الجديد": "كنت أتوجّه إلى منزل والدَي، ولم يكن الطريق الذي نسلكه خطراً، على الرغم من أنّه جبلي. فجأة، راحت الحافلة تتمايل يميناً ويساراً لتصطدم بحاجز حديدي إلى جانب الطريق وتنقلب إثر ذلك. لا أعلم كم استغرق ذلك من وقت، كلّ ما أذكره أنّني خفت من الموت، لا سيّما عندما سقطت على أحد الركاب الذي كان مضرجاً بالدم". يضيف أنّ "ركاباً آخرين أصيبوا من جرّاء الحادثة، بعضهم بإصابات خطرة، فيما نجوت أنا وعدد آخر"، مشيراً إلى أنّ "سائق الحافلة شعر بدوار ففقد السيطرة عليها وكان ما جرى". منذ تلك الحادثة، وعلى مدى أكثر من ستّة أشهر، راح محمد يستقلّ المترو عند توجّهه إلى مقرّ عمله ومنه إلى منزله في تونس العاصمة. كذلك لم يزر أهله لنحو عام كامل، خشية ركوب حافلة من جديد، أمّا اليوم فقد تغلّب على ذلك.

بالنسبة إلى كثيرين، فإنّ إصابات حوادث السير تقتصر على الأضرار جسدية، مسقطين من حساباتهم الضرر النفسي المحتمل في أحيان كثيرة، علماً أنّ حدّة الصدمة التي يتعرّض لها الركّاب أو السائقون قد جعلهم عاجزين عن تجاوزها إلّا بعد مرور مدّة زمنية تختلف باختلاف الشخص المعني. وهؤلاء قد يسترجعون سيناريو الحادثة في مرّات عدّة ويعاودون التفكير فيه ليعيشوا وقعه وألمه مرّة جديدة، فيما تسيطر الكوابيس والأحلام المزعجة على عدد منهم فيفقدون القدرة على النوم. يُذكر أنّ ثمّة ضحايا ناجين من حوادث سير قد يستعيدون صدماتهم عند عودتهم إلى القيادة من جديد أو سماع أخبار عن حوادث مشابهة، الأمر الذي يخلّف لديهم انفعالات مختلفة كالقلق والتوتّر.




بدوره، تعرّض أمين بالضياف، في الثلاثينيات من عمره، لحادثة سير قبل نحو ستّة أعوام. هو كان يقود سيارته عائداً من مقرّ عمله إلى بنزرت إحدى المحافظات القريبة من العاصمة، عندما اصطدم بشاحنة لنقل البضائع تجاوز سائقها المسار المحدّد له وبسرعة فائقة. يخبر "العربي الجديد" أنّ "الحادثة تسبّبت لي بكسر كبير عانيت من جرّائه على مدى أكثر من عام، لأنّي خضعت إثر ذلك لعملية جراحية استلزمت وضع برغيّ طبي". يضيف أنّه لم يتمكّن من العودة إلى القيادة بعد الشفاء، ليس بسبب إصابته إنّما نتيجة الشعور بالخوف كلّما جلس خلف المقود. يُذكر أنّ بالضياف، على الرغم من الضرر النفسي الذي تعرّض له، لم يلجأ إلى أيّ علاج نفسي ولم يولِ الأمر أيّ أهمية. كلّ ما فعله هو العيش في العاصمة لتجنّب التنقّل يومياً، لافتاً إلى أنّ "زوجتي هي التي تتولّى القيادة عند اضطرارنا لذلك".

أمّا منيرة عياري، فقد تعرّضت لحادثة سير قبل نحو خمسة أعوام، وهي في العشرينيات من عمرها. تقول لـ"العربي الجديد": "بقيت أكثر من عامَين اثنَين غير قادرة على الجلوس وراء المقود. كلّما حاولت ذلك، تذكّرت الحادثة وكيف أنّني ألحقت الأذى بامرأة وابنتها كانتا تجتازان الطريق". وتخبر أنّ "الحادثة وقعت عند الساعة السابعة والنصف صباحاً حين كنت متّجهة إلى عملي. وقع هاتفي، وحين محاولتي التقاطه لم أنتبه إليهما وهما تعبران الطريق"، لافتة إلى أنّ "أوّل ما رأيته عند ترجّلي من السيارة هو الدم الذي كان قد سال من الفتاة، فأغمي عليّ". تضيف أنّهما نقلتا إلى المستشفى ولم تكن إصابتاهما خطرتين، مشيرة إلى أنّه "على الرغم من تكفّلي بمصاريف علاجهما ومواظبتي على زيارتهما حتى تماثلتا للشفاء، فإنّني ما زلت أشعر بالذنب. فأنا المخطئة". ولم تتمكّن عياري من القيادة ثانية إلا بعد مرور عامَين على الحادثة، موضحة أنّها خضعت إلى "علاج نفسي، لا سيّما أنّني كنت أشعر بعجز إزاء إمكانية العودة إلى القيادة". وتتابع: "لم أنسَ يوماً تلك الحادثة التي كادت تودي بحياة شخصين بسبب قلّة انتباهي، وأنا اليوم أتجنّب المرور من ذلك الطريق الذي يذكّرها بتفاصيل الحادثة".



في السياق، يقول المتخصص في علم النفس بدرة بن صالح لـ"العربي الجديد" إنّ "حوادث الطرقات بمعظمها تخلّف آثاراً نفسية في مرتكبها أو في الضحية، خصوصاً الحوادث الخطرة التي تخلّف إصابات حادّة أو قتلى. والآثار النفسية يعانيها من أصيبوا بإعاقات دائمة على خلفيّة حادثة ما أكثر من سواهم لأنّهم يشعرون بعدم قدرة على التأقلم مع واقعهم الجديد". ويشرح بن صالح الآثار مشيراً إلى أنّ "المتضررين يصيرون أكثر قلقاً واكتئاباً ويميلون إلى العزلة". يضيف أنّ "المتضررين من حوادث الطرقات يشكون بمعظمهم من استعادة تفاصيل ما حصل حتى لو مرّ زمن على ذلك. بعضهم يخاف من القيادة وبعض آخر يخاف من ركوب وسيلة النقل التي كان على متنها حين وقوع الحادثة. وقد تطول مدّة تخطّي الأمر بحسب حالة كلّ متضرر". لكنّه يلفت إلى أنّ "كثيرين من الذين وقعوا ضحايا حوادث سير أو ارتكبوها يرفضون العلاج النفسي"، موضحاً أنّ "عدداً منهم لا يعي أنّه يحتاج بالفعل إلى ذلك العلاج، فيما يخاف آخرون من البوح بما يشعرون به".