في أيامنا هذه، تبدو الحاجة ملحّة لدى التونسيين إلى ما يمكّنهم من النفاذ بسهولة إلى الخدمات الصحية
يكثر التونسيون الذين لا يملكون بطاقة صحية، وهؤلاء عند إصابتهم بمرض ما يجدون أنفسهم مضطرين في حالات مختلفة إلى سداد تكاليف العلاج كاملة أو الاكتفاء بشراء أدوية من الصيدليات في حالات أخرى. سمية امرأة ثلاثينية من محافظة الكاف في شمال غرب تونس، من هؤلاء، وهي لم تكن تهتم كثيراً لعدم امتلاكها "دفتر علاج"، لكن عند حملها الأوّل صار الاستحصال على بطاقة صحية أمراً أكثر من ضروريّ حتى تتمكّن من إجراء الفحوصات اللازمة. لكنّها تقول لـ"العربي الجديد" إنّ "عدم توفّر عمل ثابت لي فيما يشتغل زوجي مياومة، تارة في البناء وطوراً في الزراعة، فإنّ الحصول على دفتر للعلاج يكاد يكون أمنية مستحيلة". وتؤكد سمية أنّ "الوضع معقّد، فأنا أجهل الإجراءات المطلوبة للحصول على بطاقة صحية. وضعي على هذه الحال منذ سنوات عدّة وكذلك الأمر بالنسبة إلى زوجي"، مشيرة إلى "اضطراري إلى سداد التكاليف كاملة عند المرض أو الاكتفاء ببعض الأدوية التي أشتريها مباشرة من الصيدلية على الرغم من ظروفنا المادية الصعبة".
أمّا يسرى الذوادي وهي امرأة مطلقة وأمّ لطفلة لم تتجاوز عامها الرابع تسكن في العاصمة التونسية، فتأمل أن تتمكّن في يوم من "تلقّي العلاج من دون أن أضطر إلى الحصول على إفادة من معتمد منطقة حيّ التضامن في تونس العاصمة وحمل ابنتي إلى أقرب مستوصف حكومي"، مضيفة لـ"العربي الجديد" أنّ "تلك الإفادة ظرفية وتُمنَح لي مراعاة لظروفي الاجتماعية، علماً أنّني لا أستطيع الحصول عليها في الإجازات ولا في الحالات الطارئة أو عندما ترتفع حرارة ابنتي فجأة في الليل أو تصيبها حالة صحية معيّنة. في مثل تلك الحالات، أزوّد ابنتي بالأدوية نفسها التي سبق ووصفها الطبيب لها".
يُذكر أنّ يسرى تنتظر بطاقة صحية بعدما كانت قد تقدّمت بطلب منذ أكثر من شهرَين، مشيرة إلى أنّ "هذه المسألة تؤرّقني كثيراً، خصوصاً عندما يتعلّق الأمر بصحّة ابنتي وبأدوية تُعَدّ ضرورية لإنقاذها، فأنا عاجزة عن تدبّر تكاليفها في حالات كثيرة".
من جهتها، حصلت جليلة وهي أرملة من محافظة القصرين، في وسط غرب تونس، على بطاقة صحية مجانية مباشرة بعد الثورة، وقد أسعفها حظّها، علماً أنّها كانت قد عانت على مدى سنوات عدّة من جرّاء عدم تمكّنها من التداوي. تخبر جليلة "العربي الجديد" أنّها لم تكن تزور الطبيب في الماضي، لكن "بعد مطالب عدّة وشكاوى خاصة لا سيّما أنّني مسؤولة عن أربعة أبناء، تمكّنت من الحصول على دفتر العلاج المجاني".
وتسعى الحكومة التونسية إلى تمكين تونسيين كثيرين، خصوصاً هؤلاء الذين لا يملكون بطاقات صحية، من حقّهم في خدمات صحية بحسب ما يكفله الدستور التونسي، وذلك عبر تطبيق برنامج الأمان الاجتماعي. وقد دخل القانون حيّز التنفيذ بعد صدوره بالرائد الرسمي في 30 يناير/ كانون الثاني 2019، مع الأخذ بعين الاعتبار الدخل والصحة والتعليم والسكن والنفاذ إلى الخدمات العمومية وظروف العيش بهدف تحديد الفئات المنتفعة من برنامج الأمان الاجتماعي والتي تُصنَّف إلى فئات فقيرة وفئات محدودة الدخل.
وتؤكد مديرة الإدارة العامة للنهوض الاجتماعي في وزارة الشؤون الاجتماعية التونسية، رجاء بن براهيم، لـ"العربي الجديد" أنّ "برنامج الأمان الاجتماعي يهتمّ بالفئات التي لا تندرج في أيّ منظومة علاجية، أيّ المواطنون الذين لا يستفيدون من أيّ تغطية اجتماعية"، مضيفة أنّ "برنامج الأمان الاجتماعي يشمل نحو 900 ألف عائلة، بعضها تنتفع من بطاقات علاجية وأخرى لا تفعل". وتشير بن براهيم إلى أنّ الوزارة أطلقت حملة "اضمن حقك.. إيجا قيّد" بهدف توعية التونسيين حول حقهم في النفاذ إلى الخدمات الصحية، موضحة أنّ "العائلات تحصل على معرّف (رقم) اجتماعي يضمن حقّها في بطاقة أمان اجتماعي لتعويض بطاقة العلاج البيضاء أو الصفراء (مخصصة للفئات محدودة الدخل والهشة)". وتؤكد بن براهيم أنّ "الدستور التونسي يكفل التغطية الصحية للتونسيين وأنّ المنظومة لا تقتصر على العلاج فقط بل تشمل الخدمات الاجتماعية الأخرى منها مقاومة الفقر والحقّ في السكن اللائق والتعليم. والمنظومة الخاصة بالأمان الاجتماعي سوف تنهض بالفئات الهشة، بالتالي لن يُصار الحديث مستقبلاً عن تونسي في خارج المنظومة الصحية أو لا يتمتّع بالتغطية الصحية". وتتابع بن علي أنّ "البطاقة تختلف بحسب الحالة الاجتماعية، فثمّة بطاقات لفاقدي السند وللأرامل ولذوي الإعاقة وللمصابين بأمراض مزمنة وللعائلات التي يعاني أحد أفرادها من إعاقة وتكون من دون دخل".
تفيد دراسة أعدّتها الجمعية التونسية للدفاع عن الحق في الصحة إلى عقبات عدّة تحول دون تمكّن تونسيين كثيرين من الاستشفاء والحصول على دواء، شارحة أنّ أكثر الفئات عرضة إلى التدهور الصحي في تونس هي تلك تعاني البطالة والفقر. وتشير الدراسة إلى عدم المساواة في المحدّدات الاجتماعية للصحة، خصوصاً أنّ تونسيين كثيرين في غرب البلاد وجنوبها ما زالوا يفتقرون إلى تلك الاحتياجات، ومعظمهم من النساء. يُذكر أنّ التوزيع الجغرافي للمؤسسات الصحية في تونس يُعَدّ جيّداً إلى حدّ ما، لكنّ المشكلة الكبيرة تكمن في عدم المساواة في الخدمات الصحية، فكثيرون يشكون من عدم تمكّنهم من الاستفادة من المرافق الصحية القريبة منهم وعدم حصولهم على العلاج، فيما لا تقدّم مراكز الصحة الأولية بمعظمها سوى حصّة واحدة في الأسبوع للعيادات الطبية ولا تتوفّر في المستشفيات المحلية المعدات والتجهيزات الطبية الكافية وسط نقص فادح في الأطباء.