توفيق عكاشة يحترف في الخليج

15 يوليو 2017

توفيق عكاشة.. مهزلة إعلامية تحولت إلى "ظاهرة"

+ الخط -
منذ إسقاط عضويته وطرده من البرلمان المصري وإغلاق قناته التلفزيونية قبل أكثر من عام، اختفى توفيق عكاشة، أحد أذرع النظام المصري الإعلامية، وأحد كبار المهرّجين في بلاط الأخير حتى الآن لأسباب غامضة، لكن الأزمة الخليجية الحالية ربما تلقي الضوء على مصير الرجل ومنهجه الإعلامي.
مبعث ذلك أن وسائل إعلام الدول الأربع التي تحاصر قطر ما فتئت تستخدم المدرسة "العكاشية" في تغطيتها الأزمة منذ اللحظة الأولى، وهي مدرسةٌ تخلط الجد بالهزل، وتمتزج فيها المعلومات بالهلاوس والخزعبلات، لتنتج، في النهاية، خليطا مثيرا للسخرية والتندر.
إذا أردنا إحصاء بعضٍ مما جاءت به وسائل إعلام دول الحصار، فبالتأكيد لن نستطيع ذلك، لكثرة العكاشيات التي حفل بها خطاب وسائل الإعلام تلك، فمن الحديث عن "المعدة القطرية"، وعدم قدرتها على تحمّل المنتجات التركية، والتأكيد على معاناة "الأبقار" في قطر من درجة الحرارة (وكأن الأبقار في السعودية والإمارات تعيش في أجواء القطب الشمالي مثلا!)، والزعم بوجود أزمة في المياه العذبة في قطر، إلى نشر أخبار عن وجودٍ للحرس الثوري الإيراني في الدوحة، مرورا بادّعاء قناة العربية أن قطر اشترت أدواتٍ للتصدّي للمظاهرات. وأخيرا، وجدنا مراسل "العربية" يصل بمنسوب العكاشية إلى أعلى مستوياته، ويخبرنا بكل ثقةٍ أن قطر تقوم بتسخير الجن لحل الأزمة الراهنة. بالإضافة إلى ترويج شائعاتٍ أخرى، أحرجت دول الحصار وجاءت بنتائج عكسية، مثل ادّعاء أن قطر تقف وراء محاولة اغتيال العاهل السعودي الراحل عبد الله بن عبد العزيز، وكانت تلك ضمن شائعات أخرى كثيرة، هدفت إلى تصوير قطر باعتبارها "الشيطان الأكبر" الذي يخطّط لكل المصائب والأحداث في الوطن العربي والعالم، تماما مثلما نسب لجماعة الإخوان المسلمين كل الجرائم التي تخطر على البال، ليتضح، في النهاية، أن المتهم الرئيسي بالعملية يقيم في أبو ظبي، فضلا عن البذاءات والسب والقذف والخوض في الأعراض من صحف سعودية كبرى، بطريقةٍ غير مسبوقة.
أما نائب رئيس الشرطة في دبي، ضاحي خلفان، فهو ظاهرة عكاشية وحده، فقد انفرد بزعم وضع أمير قطر، الشيخ تميم، قيد الإقامة الجبرية، ثم عاد وقام بتعديل السيناريو ليصبح الأمير الوالد، الشيخ حمد، هو القابع قيد الإقامة الجبرية، قبل أن يشطح أكثر، ويتحدث عن "النظام القطري المخلوع"، وذلك كله وهو جالسٌ على كرسي مكتبه، يسقط من يشاء ويعين من يشاء في غمضة عين.
كما تفتقت أذهان القائمين على قناة سكاي نيوز عربية عن حلٍّ سحريٍّ، يمكّنهم من الإيحاء 
بوجود رأي عام عالمي مناهض لقطر، فقد حوّلت القناة المتظاهرين في مدينة هامبورغ الألمانية ضد انعقاد قمة دول العشرين، لتصفهم بأنهم يتظاهرون ضد قطر! وهو خبر أثار سخريةً واسعةً من المتابعين، وطرح مرة أخرى أسئلةً عن سر سكوت قناة سكاي نيوز العالمية عن ممارسات نسختها العربية التي لم تترك جريمةً مهنية إلا وارتكبتها، على الرغم من أن القناة العالمية نفسها تقدّم تغطيةً متوازنةً للأزمة.
وتقمصت صحيفة البيان الإماراتية دور صحيفة اليوم السابع المصرية، عندما نشرت أخبارا عن تذمرٍ وانشقاقاتٍ في الجيش القطري، وزعمت تعيين قائد تركي للجيش القطري، وإعلان حالة الطوارئ في الدوحة، وهي خزعبلاتٌ تتكامل مع التي نشرتها قرينتها المصرية قبل أيام، عن مظاهرات عارمة في شوارع العاصمة القطرية.
بعد الهزيمة الفادحة التي منيت بها دول الحصار في الشهر الأول للأزمة في الحصول على أي دعمٍ دولي، والفشل المدوّي لها في تحقيق أي اختراق، على الرغم من تهديداتها المتكرّرة، لم يتوقف إعلام دول الحصار عن "العكشنة"، بل شهدت تغطياته تماديا وقحا، تمثل في فبركة تصريحاتٍ على لسان رئيس البرلمان الألماني ونائبته تؤيد الحصار على قطر، وهو ما اضطر رئيس البرلمان الألماني إلى نفي تلك التصريحات بنفسه. لكنهم لم يتوقفوا، ففبركوا بيانا كاملا ونسبوه للسفارة الألمانية في الرياض، والمضحك أن هذا البيان المنسوب للسفارة لم تنشره الأخيرة على الإطلاق على أيٍّ من منصاتها، وإنما نشرته وزارة الإعلام السعودية! وكأن الأخيرة أصبحت المتحدث الرسمي باسم الخارجية الألمانية، والمضحك أكثر أن وسائل إعلام دول الحصار جميعها تلقفت البيان، ونشرته بكل فخر، وكأنه نصر مؤزر. والمفارقة أن وسيلة إعلام سعودية أخرى، هي قناة الإخبارية الشهيرة، تلاعبت بترجمة التصريحات "الحقيقية" لوزير الخارجية الألماني في أثناء زيارته السعودية، والتي قال فيها إن أحدا لا يشكّك في سيادة قطر.
وحتى عندما جاءت المدّعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية إلى قطر والتقت أمير البلاد الشيخ تميم، وأدلت بتصريحاتٍ أعربت فيها عن قلقها من الانتهاكات المترتبة على الحصار، وأشادت بتعامل قطر مع الأزمة، سارعت وسائل إعلام دول الحصار إلى القول إن المحكمة الجنائية الدولية لم تصدر أي بياناتٍ بشأن قطر، وهو استغفال للمشاهدين من نوع جديد، فلم يقل أحدٌ أصلا أن المحكمة أصدرت أي بيان، لأن تلك التصريحات، ببساطة، كانت صادرةً من المدّعية العامة شخصيا في أثناء زيارتها الدوحة.
بقي أن نقول إن سمة أساسية أخرى، تشترك فيها وسائل إعلام دول الحصار مع المدرسة
العكاشية في الإعلام، فتلك المدرسة، وإن كانت تبدو هزلية، إلا أنها تلعب أدوارا خطيرة في اللعب بأفكار الجمهور وعواطفه، خصوصا من ذوي التعليم المحدود، الذين يستمدون ثقافتهم ومعلوماتهم من وسائل الإعلام المرئية فقط، ولنا في توفيق عكاشة نفسه مثالا، فهو وإن كان الثوار المصريون لم يتعاملوا معه بالجدّية الكافية، إلا أنه كان يبني قاعدةً شعبيةً بصورة مستمرة، ونجح خلال سنوات الثورة الأولى في تنظيم مظاهراتٍ ضمت مئاتٍ من "أنصاره"! وبالفعل، تحول إلى ظاهرة في عالم الإعلام، حتى إن دراسةً أنثروبولوجية محكمة صدرت عنه قبل أكثر من عامين، أنجزها البروفيسور والتر أرمبرست، استغرقت منه عامين قضاهما في مصر لدراسة الظاهرة "العكاشية"، فلا يجب أن تغرّنا مسخرة عكاشة والعكاشيين في مصر والخليج عن خطورتهم، خصوصا مع إغلاق وسائل الإعلام وحجبها عن شعوب دول الحصار وتهديدهم بالسجن والغرامة، إن أبدوا تعاطفا مع قطر.
والآن، يبدو أننا عرفنا ماذا يفعل توفيق عكاشة حاليا، فبالتأكيد حصل الرجل على عقد "احترافٍ" في إعلام دول الحصار، لينشر مدرسته الفريدة من نوعها هناك، وها قد بدأت تباشير تلك المدرسة في الظهور أخيرا، فقبل سنواتٍ كان الإعلاميون المصريون يذهبون إلى الخليج، لإنشاء صحف وقنوات تلفزيونية ووسائل إعلام تحظى بالتقدير والاحترام، أما الآن فصار بعضهم يصّدرون مدرستهم في الإعلام البذيء والمنحط، وصار أمثال توفيق عكاشة قدوةً لأقرانهم في دول الحصار.
وكما عبر مدير قناة الجزيرة، ياسر أبو هلالة، فقد تحقّقت مخاوف الإعلامي السعودي، جمال خاشقجي، رد الله غيبته، التي كتبها على موقع تويتر قبل أكثر من عام، عندما دعا الله عز وجل قائلا "اللهم لا تكتب على إعلامنا أن يكون مثل الإعلام المصري"، فلم يصبح مثل الإعلام المصري فقط، وإنما أصبح إعلاما عكاشيا بامتياز.
D90F1793-D016-4B7E-BED2-DFF867B73856
أسامة الرشيدي

صحفي وكاتب مصري، شارك في إنجاز أفلام وحلقات وثائقية عن قضايا مصرية وعربية، وكتب دراسات ومقالات نشرت في مجلات ومواقع إلكترونية.