تمر العلاقات التركية - الألمانية بمخاض جديد في تحوّلها، لن يقل عن الذي عاشته العلاقات الروسية - التركية بعد عام 2015، بعدما بات واضحاً أن التوترات المستمرة بين أنقرة وبرلين لم تعد نتيجة استحقاقات سياسية داخلية في البلدين، بل إن التحوّل القائم لن تقبل خلاله تركيا إلا أن تكون شريكاً نداً لألمانيا، وهي تبحث عن معادلة تخفف الضغط عليها في ما يخص ملف حقوق الإنسان وحرية الصحافة.
خلافات متصاعدة
ويمكن إحصاء ما يقارب 12 "اشتباكاً" بين برلين وأنقرة منذ مارس/ آذار 2016، عمل الطرفان على احتوائها. وبعد الموقف الألماني المعارض للتعديلات الدستورية في مارس وإبريل/ نيسان من العام الماضي وما رافق ذلك من منع مسؤولي الحكومة التركية من القيام بأي حملات لحث المغتربين الأتراك على التصويت لصالح الدستور بينما سُمح للمعارضة التركية بالتحرك بحرية، تتالت الخلافات بين الطرفين، وصولاً إلى سحب ألمانيا قواتها المشاركة في التحالف الدولي من قاعدة إنجرليك. ثم انفجر الخلاف، مرة أخرى، تحت وقع السجالات الداخلية الألمانية، بعد إلقاء السلطات التركية القبض على الصحافي التركي الألماني، دينيز يوجل، ومن ثم الناشط الألماني في حقوق الإنسان، بيتر شتويتنر.
وعلى الرغم من العلاقات الاقتصادية المتينة بين البلدين، بل التحالف التاريخي والتأثير المتبادل الذي يمتد لما قبل الحرب العالمية الأولى، لا تكاد تصريحات المسؤولين الأتراك في أي أزمة مع برلين، تخلو من مواضيع رئيسية عدة، على رأسها رفض ما يصفونه بالتعالي الألماني في التعامل مع الأتراك، والتأكيد على أن زمن تركيا الضعيفة الخاضعة للتعالي الأوروبي الذي يفعل ما يشاء ضد أنقرة ومن ثم يأخذ ما يريد منها، قد انتهى. وفي هذا السياق، قال مستشار الصناعات الدفاعية التركي، إسماعيل دمير، إن أي قرار قد تتخذه ألمانيا بمراجعة أو تجميد مشاريع دفاعية مشتركة، سيرفع من المعنويات التركية نحو مشاريع الأنظمة الوطنية والمحلية. جاء ذلك في حديث لوكالة "الأناضول"، رداً على تقارير إعلامية قالت أخيراً إن الحكومة الألمانية تنوي مراجعة وتجميد مشاريع دفاعية مشتركة مع نظيرتها التركية. وأوضح دمير أن أي قرار من هذا القبيل (مراجعة أو تجميد المشاريع المشتركة)، قد يتسبب بتباطؤ بعض المشاريع لكنه لن يؤثر على النتائج. وأضاف "قرار كهذا من شأنه أن يزيد من معنوياتنا في ما يخص مشاريع الأنظمة (الدفاعية) الوطنية والمحلية".
أما على الجانب الألماني، وعلى الرغم من محورية ملف حقوق الإنسان التركي بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة في منتصف يوليو/ تموز من العام الماضي في تصريحات المسؤولين الألمان، إلا أن تصريحات رئيس جهاز حماية الدستور الألماني (الاستخبارات)، هانس جورج ماسين، بدت معبّرة للغاية، عندما أكد أن الجهاز الذي يترأسه يرى في تركيا منافساً بسبب العمليات الفعالة التي قام بها جهاز الاستخبارات التركي.
وخلال مقابلة مع مجلة "دير شبيغل" الألمانية، قال ماسين إنه "بعد المحاولة الانقلابية في تركيا، والتحوّل في السياسة الداخلية، لم نعد نرَ جهاز الاستخبارات التركي شريكاً فحسب، بل نراه منافساً بعد العمليات الفعالة التي أجراها في ألمانيا"، مشيراً إلى أن الاستخبارات التركية تجاوزت القوانين الألمانية، إذ وسعت من نشاطها في ألمانيا بعد المحاولة الانقلابية لمتابعة المقيمين في ألمانيا من أنصار المحاولة الانقلابية أو حزب "العمال الكردستاني".
وفي حسابات الربح والخسارة، يميل الميزان التجاري في العلاقات بين البلدين لصالح تركيا، إذ تُعتبر الأسواق الألمانية واحدة من أهم أسواق تصدير السلع التركية، وبالتالي الخسائر التركية ستكون الأكبر في حال تطبيق أي عقوبات على أنقرة، الأمر المستبعد في الوقت الراهن على الأقل. وبحسب أرقام مجلس المصدّرين الأتراك، فقد احتلت الأسواق الألمانية المرتبة الأولى، إذ صدّرت تركيا خلال الأشهر الستة الأولى من العام الحالي، ما قيمته 7 مليارات دولار لألمانيا، بما يشكل 10 في المائة من مجمل الصادرات التركية في العام نفسه. وبحسب وزارة الاقتصاد التركية، فإن تركيا تمكّنت خلال السنوات الخمس الأخيرة من استقطاب 47.9 مليار دولار كاستثمارات أجنبية، كانت حصة الألمان فيها 3.8 مليارات، بما يشكل 8 في المائة من الاستثمارات المتدفقة إلى البلاد.
مآخذ تركية
لطالما كانت ألمانيا وبلجيكا ودول أخرى من الاتحاد الأوروبي، معاقل لشبكات "العمال الكردستاني" التي تتخذ منها مراكز للتجنيد وجمع التبرعات والتمويل المالي. ولم تتخذ ألمانيا على مدى عقود أي إجراءات حقيقية للحد من نشاط هذا الحزب في أراضيها على الرغم من كونه على قائمة الإرهاب الأوروبية. إلا أن برلين لم تكتف بهذا القدر، وبدل التركيز على إدانة المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا، كان تركيز خطابات المسؤولين الألمان على تقديم المتهمين بالمحاولة الانقلابية لمحاكمات عادلة، في ما بدا "تواطؤاً مع الانقلابيين" بالنسبة لأنقرة، بعد أن قدّمت برلين، قبل المحاولة الانقلابية، حق اللجوء لعدد من أنصار حركة "الخدمة" الفارين إليها.
وبعد المحاولة الانقلابية، قدّمت برلين حق اللجوء السياسي لجميع أنصار حركة "الخدمة" المتهمين بإدارة المحاولة الانقلابية الفاشلة، ممن تقدّموا بطلبات لجوء على أراضيها، بما في ذلك للعسكريين الأتراك العاملين في مقار حلف شمال الأطلسي ممن رفضوا الامتثال لطلبات الجيش التركي لهم بالعودة إلى البلاد. وتحوّلت ألمانيا إلى معقل لكل أشكال المعارضة التركية. كما اتُهمت برلين، بحسب تسريبات صحافية، بحماية مشاركين مباشرين بالمحاولة الانقلابية، عبر الضغط على أثينا لمنع تسليم ثمانية ضباط انقلابيين فروا إلى الأراضي اليونانية إثر المحاولة الانقلابية.
وبناء على ذلك، يصر الأتراك على ضرورة التزام برلين بمعايير الحليف وتسليم جميع المطلوبين لها، لكن ألمانيا استمرت بالرفض والتصعيد على كل المستويات، حتى أن أي مراقب للصحافة الألمانية يستطيع ملاحظة وجود حملة ضد الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، أحالته إلى عدو ألمانيا الأول، بعد أن تربّع في هذا المكان سابقاً الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بعد ضم موسكو للقرم ودعمها للانفصاليين في شرق أوكرانيا.
ويبدو أن تركيا تحاول استغلال ملف الموقوفين الألمان لديها لمبادلتهم بكبار الضباط الأتراك المتهمين بالمشاركة في المحاولة الانقلابية، من المقيمين في ألمانيا، وذلك في حال صحت تسريبات "دير شبيغل" الألمانية قبل أيام، حول وجود طلب تركي لمبادلة الصحافي التركي الألماني، دينيز يوجل، باثنين من كبار الضباط الأتراك المقيمين في ألمانيا.
من جهة أخرى، يبدو أن لتوتر العلاقة أبعاداً أخرى، يمكن فهمها من "الحدية العالية" للنمسا تجاه تركيا، إذ عبّر وزير الدفاع النمساوي، هانس بيتر دوسكوزيل، في مقابلة أجراها مع صحيفة "دي فيلت" الألمانية، نهاية يونيو/ حزيران من العام الماضي، عن انزعاجه الكبير من تنامي النفوذ التركي والسعودي في البلقان، على حساب نفوذ الاتحاد الأوروبي. وقال: "نلاحظ فعاليات أسلمة في البلقان، بينما يخسر الاتحاد الأوروبي من نفوذه في البلقان، في الوقت الذي يزداد فيه النفوذ التركي والسعودي"، مشيراً إلى ازدياد النفوذ التركي في ألبانيا وكوسوفو وصربيا.
يُذكر أن تركيا عملت خلال العقد الأخير على استعادة نفوذها التاريخي في البلقان، عبر تمتين العلاقات العسكرية والسياسية مع كل من ألبانيا وكوسوفو والبوسنة ومقدونيا. ومع تمتعها بعلاقات قوية مع كرواتيا، استغلت تركيا علاقاتها الجيدة مع روسيا لإيجاد نفوذ لها في صربيا، بينما بدأت بعض دول أوروبا الشرقية الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، مثل المجر، ولمواجهة الضغوط الأوروبية عليها في ملفاتها حول حقوق الإنسان وحرية التعبير وتقاسم عبء اللاجئين، بالتوجّه نحو إيجاد علاقات أكثر توازناً مع تركيا وروسيا. وزار رئيس الوزراء المجري، فيكتور أوربان، تركيا مرات عدة، معبراً عن دعمه لانضمام تركيا إلى الاتحاد، وتعزيز التعاون الاقتصادي بين الطرفين، والسماح لخط السيل التركي الذي سينقل الغاز الروسي، بالمرور عبر أراضي بلاده، على الرغم من اعتراض الاتحاد على المشروع، الذي يتنافى مع العقوبات المفروضة على روسيا، ويمنح تركيا المزيد من النفوذ في ما يخص وارادت الطاقة إلى دول الاتحاد.
في غضون ذلك، عمدت أنقرة إلى التقارب مع موسكو، وذلك لمواجهة المماطلة الأوروبية في ملف انضمامها للاتحاد الأوروبي، وعدم التزام الأخير بالوعود التي قطعها، سواء لتقديم مساعدات مالية للاجئين السوريين في الأراضي التركية، أو رفع تأشيرة الدخول عن المواطنين الأتراك، وكذلك المماطلة في تحديث اتفاقية الاتحاد الجمركي الأوروبي التركي.
واشتد عزم الأتراك على مواجهة برلين، القائدة الرئيسية للاتحاد الأوروبي في الفترة الأخيرة، لأسباب عديدة، على رأسها فقدان ألمانيا للكثير من عناصر القوة بعد خسارة المظلة الأميركية، في ظل التوتر بعلاقاتها مع واشنطن مع وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، بما رافق ذلك من خلافات، باتت تشي بانتهاء الكتلة الغربية التي تشكلت بعد الحرب العالمية الثانية. وأيضاً بسبب وجود تيار ضمن الاتحاد الأوروبي مكوّن من فرنسا وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال وبعض دول أوروبا الشرقية، ممن يرفضون التصعيد مع تركيا التي لا يرونها تهديداً لمصالحهم، وكذلك وسط العلاقات المزدهرة بين تركيا والمملكة المتحدة التي تحتاج لحليف في مواجهة بروكسل أثناء مفاوضات الانفصال عن الاتحاد الأوروبي، في الوقت الذي تبدو فيه العلاقات مع موسكو، العدو الأول للاتحاد، أكثر من متينة.