تهويدات الأطفال... أغنيات على مسامع النائمين

06 سبتمبر 2020
"الطفل النائم" لـ بول غوغان (Getty)
+ الخط -

مع التهويدة الأولى التي ترددها الأمهات على مسامع أطفالهن قبل النوم، تبدأ علاقة البشر بالموسيقى؛ علاقة تبدأ بالتكون في تلك اللحظات الفاصلة ما بين الوعي واللاوعي، مع أغانٍ ذات لحن سهل وبسيط، يتم تكرارها برتابة لتساعد على الاسترخاء والنوم على وقع صوت أنثوي رقيق وخافت، وترافقها عوامل أخرى داعمة، كالاهتزازات الجسدية اللطيفة والإضاءة الخافتة. 

في الغالب، تعتمد الأمهات في تهويداتهن على أغانٍ فلكلورية مقترنة بتراث المنطقة التي ينتمين إليها، من دون أن نغفل أن بعض الأمهات يملن إلى ارتجال تهويداتهن الخاصة. الأمر المشترك بين التهويدات الفلكلورية والتهويدات المرتجلة، أنها جميعاً تعتمد على ألحان بسيطة، قوامها جمل سهلة وقصيرة، تتخللها عبارات صوتية لا معنى لها.

تتكون هذه التهويدات من مقطعين متبايني اللحن على الأكثر؛ المقطع الأول يكون الأبطأ، وترافقه الاهتزازات الأكثر ليناً ودفئاً، وأما المقطع الثاني فهو المقطع الأسرع، وترافقه اهتزازات أكثر قوة، ينتهي لحنياً بجملة قرار، يمكن الوقوف عندها، كما يمكن العودة منها للمقطع الأول.

هذه العلاقة بين البشر والموسيقى غير مرتبطة بظرف زماني ومكاني واحد؛ فلكل ثقافة وحضارة تهويداتها الخاصة بها، وأقدم التهويدات التي تم توثيقها تاريخياً هي التهويدات السومرية التي جمعها الكاتب الآشوري الأميركي، صاموئيل نوح كرامر، في كتابه "التاريخ بدأ في سومر"، الذي قام بتأليفه بعد سنوات من عمله في الحفريات الأثرية في ثلاثينيات القرن الماضي، أي في الحقبة التي فرضت فيها بريطانيا الوصاية على العراق؛ إذ قام حينها بفك رموز الألواح المكتوبة بالخط المسماري، والتي يعود تاريخها للعصر البرونزي قبل خمسة آلاف سنة، بمساعدة الباحث، أفرايم أفيغدور سبيسر.

من اللافت أن السومريين اهتموا بتوثيق تهويداتهم، كما أنه من اللافت أيضاً أن بعض التهويدات السومرية لا تقوم فيها الأم بمخاطبة الطفل بشكل مباشر، بل هي تؤنسن النوم أو تؤلهه لتخاطبه، وتناجيه لتساعد الطفل على النوم، ضمن مقاطع غنائية قصيرة، لا يمكن التنبؤ بلحنها.

ومن هذه التهويدات: "تعال يا نوم. تعال أيها النوم، تعال إلى حيث تجد طفلي راقداً. أسرع أيها النوم وزرنا حيث يهجع ولدي. دعه يغلق عينيه اليقظتين. ضع يدك على عينيه المكحلتين. وبالنسبة للسانه الذي لا ينقطع من التصويت، أمسك به ولا تدعه يوقظ العينين".

ورغم ارتباط كل تهويدة بثقافة الشعوب التي أنجبتها بشكل وثيق، إلا أن التهويدات الشعبية المتداولة حول العالم لها ثيمات متشابهة؛ فكلمات بعض التهويدات تبدو اختزالاً وتبسيطاً لدورة الحياة يكسوهما تفاؤل بمستقبل مشرق؛ وهو ما يمكن التماسه بإحدى التهويدات السومرية الموثقة، التي يرد فيها: "سأجلب زوجة لطفلي، وستلد له ولداً رائعاً، وتسهر الخادمة الحلوة على طفله البديع وترضع الطفل من ثديها".

وذات الثيمة نلمحها في التهويدة السودانية "بابا وماما حبوني"، التي تتميز بأن الأم تتقمص دور الطفل فيها لتغني على لسانه، ويرد فيها: "ماما وبابا حبوني وأنا حبيتهم بعيوني. حصاني كبير وبجره شديد، وأنا من فوقه كأني أمير، أخش الجامعة وأبقى وزير".

وبعض التهويدات تتمحور كلماتها حول حراسة الطفل أثناء النوم، وفي الغالب هذا النوع من التهويدات يبدو كخطاب موجه للطفل مباشرةً لطمأنته أثناء النوم؛ ما يمكن التماسه بالتهويدة الإنكليزية Brahms Lullaby، التي يرد فيها: "ملائكة مشرقة بجانبك يا حبيبي، سيحرسونك حتى ترتاح، وستستيقظ على صدري". وذات الثيمة نلتمسها بالتهويدة الشامية الفلكلورية "يلا تنام"، التي يرد فيها: "يلا تنام لادبحلك عداك".

يُشار هنا إلى أن هذه التهويدة لها نسخ عديدة ومخففة، وأن النسخة الأكثر شيوعاً هي التي قامت فيروز بتأديتها مع إضافة اسم ابنتها، ريما، إليها، والتي يرد فيها: "يلا تنام يلا تنام لادبحلك طير الحمام. روح يا حمام لا تصدق بضحك عليها لتنام". والنسخة المعدلة تبدو شبيهة بعض الشيء بالتهويدة الإسبانية Ea La Nana، التي يرد فيها: "أيها الطائر الصغير الذي يغني عندي البحيرة، اذهب إلى نانا، اصمت، لا تجعل طفلي يستيقظ".

هناك تهويدات تبدو أكثر هزلاً وإثارة، كلماتها جزلة ورشيقة، تسير في دوائر مغلقة تعكس اللاجدوى، وترددها الأمهات كوعود تدرك أنها لن تتحقق. وهو ما يمكن التماسه في التهويدة الإنكليزية Hush Little Baby، التي يرد فيها: "اصمت يا طفلي الصغير، سيشتري لك أبوك طائراً متكلماً. وإن لم يغنّ الطائر، سيشتري لك أبوك خاتم ألماس. وإن تحول الخاتم الألماسي إلى نحاس، سيشتري لك كأساً زجاجية أنيقة. وإذا انكسرت الكأس ... وإذا وقع الحصان والعربة، ستبقى أجمل طفل صغير في المدينة".

ونفس الثيمة نجدها في التهويدة السعودية "دوها يا دوها"، التي تتميز عنها بوجود بعد إسلامي، ويرد فيها: "دوها يا دوها. والكعبة بنوها وزمزم شربوها. سيدي سافر مكة. جب لي زنبيل كعكة. والكعكة في المخزن. والمخزن مالو مفتاح. والمفتاح عند النجار. والنجار يبغى الفلوس. والفلوس عند السلطان. والسلطان يبغى المناديل. والمناديل عند الصغار. والصغار يبغوا الحليب. والحليب عند البقرة. والبقرة تبغى الحشيش. والحشيش فوق الجبل. والجبل يبغى المطرة. والمطرة عند ربي. ياربي حط المطرة. يا مطرة حطي حطي".

بعض التهويدات تقترن بوعود ستقوم العائلة بتحقيقها للطفل أثناء نومه. مثال على ذلك التهويدة المغربية "نيني يا مومو"، التي تطلب فيها الأم من ابنها النوم ريثما يتم تحضير العشاء، ويرد فيها: "نيني يا مومو، حتى يطيب عشانا. ولا ما طاب عشانا، يطيب عشا جيرانا".

ونفس الثيمة نجدها في التهويدة الفرنسية Fais dodo colas mon p’tit frère، التي تتميز بأنها تهويدة ترددها الأخت الكبرى حتى ينام أخوها الصغير، ويرد فيها: "نَم يا أخي كولاس الصغير. أمي في الطابق العلوي تصنع لك الكعك، وأبي في الطابق السفلي يصنع لك الشوكولا. نَم الآن، لتستيقظ وتضحك بصوت عالٍ".

ورغم أن كل الشعوب تميل إلى ترديد تهويداتها الفلكلورية، إلا أن عدداً كبيراً من التهويدات تعدى حدود الثقافات التي تنتمي إليها؛ فالتهويدة الإنكليزية Twinkle, Twinkle, Little Star، باتت اليوم التهويدة الأكثر انتشاراً حول العالم. وعدد كبير من الأمهات يرددنها، حتى وإن كن يجهلن معناها الأصلي.

وكذلك، فإن العلاقات التي نشأت بين الشعوب بالفترة الكولونيالية ساهمت بحركة مثاففة بين الدول المحتلة، كفرنسا وبريطانيا، والدول التي قامت باحتلالها؛ ففي سورية مثلاً تردد الأمهات منذ عقود طويلة تهويدة Frère Jacques، من دون أن يدركن معناها، ويضفن إليها بعض الكلمات العربية بعد ضربات الجرس "دين دان دون"، لتتلوها كلمات مرتجلة على ذات القافية مثل "سلم عالجردون ودقله تلفون". سهولة انتقال التهويدات بين الثقافات واللغات المختلفة تتعلق بطبيعة التهويدة ذاتها، التي يتم بناؤها على أصوات ونغمات واضحة وسهلة، قد لا يكون لها معنى في بعض الأحيان.

المساهمون