تناقضات في التعامل مع المرأة

26 اغسطس 2017
+ الخط -
أثارت دعوة الرئيس التونسي، الباجي قايد السبسي، إلى المساواة في الميراث بين المرأة والرجل جدلاً واسعاً في تونس وخارجها، انخرط فيها الإسلام الرسمي ومختلف التيارات الإسلامية وغيرها. بالطبع، لهذه الدعوة تأثير على التجاذبات السياسية، خصوصا على الثنائية التقليدية الإسلامية/ الحداثية-العلماينة بمختلف أطيافها، فهي تربك مكونيها الإسلامي والحداثي/ العلماني على السواء، ما يشير إلى حالة استقطاب قوية مستقبلاً.
ما يهم هنا ليس الخلفيات السياسية وحرب التموقعات بين مختلف التيارات السياسية، لاسيما حركة النهضة، كون دعوة السياسي تضع مذهبها الجديد القاضي بالفصل بين الديني/الدعوي والسياسي أمام امتحان عسير، وإنما التناقضات السياسية والاجتماعية في التعامل مع النص الديني، عندما يتعلق الأمر بوضع المرأة في المجتمع. وتتجاوز المسألة هنا تونس، لأن المعضلات الدينية في العالم العربي- الإسلامي عابرة للحدود، وذات تأثير اجتماعي قوي، على الرغم من وجود قوانين وطنية.
بحكم السابقة التي قد تحدثها، وخصوصا الحساسية الدينية التي تثيرها، وإن كانت حظوظ تعميم هذه المراجعة إن تمت محدودة، فمثلاً لم تسر دول أخرى على خطى تونس بشأن منع عدد الزوجات، دخل الإسلام الرسمي العربي على الخط، وتحديداً المصري من خلال الأزهر، فالأخير ينتقد اقتراح السبسي، بدعوى أن نصوص الميراث قطعية، ولا مجال للنقاش فيها أو تعديلها. لكن قتل النفس من غير وجه حق هو أيضاً محل نص قطعي. إذن، لماذا هذه الازدواجية: التذرّع بنصوص قطعية لما يتعلق الأمر بالمرأة، وصرف النظر عنها لما يتعلق الأمر بحياة الإنسان (ممارسة السلطة السياسية للقمع بل والتقتيل)؟
كيف يمكن التعذّر بالثوابت والنص الديني في تونس، لرفض المساواة في الميراث بين الرجل 
والمرأة في بلد يمنع تعدّد الزوجات، على الرغم من النص الديني نفسه؟ ما الذي يجعل الاجتهاد السابق صحيحاً والحالي- المحتمل غير صحيح؟ ثم إن القوى السياسية والدينية المحافظة في تونس لم تناضل بقوة (على الرغم من الدعوة إلى ذلك)، خلال اعتماد الدستور الجديد وقوانين تونس ما بعد الانتفاضة، من أجل إلغاء حظر تعدّد الزوجات الذي يعتبره كثيرون مكسباً للمرأة.
يذكّرنا هذا الجدل القائم في تونس بالجدل الذي عرفته الجزائر قبل سنوات بشأن إلغاء حقوق الإعدام، لمّا طالب جامعيون وحقوقيون ومثقفون ونشطاء في الجمعيات الأهلية بإلغاء عقوبة الإعدام تماما من القانون الجزائري، علماً أن الجزائر علقت العمل بها منذ 1993. تحرّكت القوى المحافظة من مختلف التيارات السياسية (الإسلامية والوطنية أحزاب السلطة وغيرها)، فضلاً عن الشخصيات الدينية، لتتحد في تحالف فسيفسائي، ولتتكلم بصوت واحد، وتهاجم كل من يدعو إلى إلغاء عقوبة الإعدام، بل ذهب بعضهم إلى حد تهديد بعض دعاة إلغائها. لكن الجزائر لم تشهد مثل هذا التحالف حول قضايا مركزية ومصيرية، مثل الفساد الذي أصبح مؤسّسة في البلاد، أو غياب المساواة والعدالة الاجتماعية... فالقول بالدين حصراً لما يتعلق الأمر بوضع المرأة وببعض القضايا النادرة، مثل عقوبة الإعدام، دلالة على انتقائية دينية، وتوظيف للدين لخدمة مآرب أخرى.. يؤرق النقاش بشأن عقوبة الإعدام الحكومة الجزائرية، لأنه يدفعها إلى حسمه باختيار أحد المعسكرين، الديني المحافظ أو الحداثي الحقوقي. وهي بالطبع غير راغبة في ذلك، نظراً إلى توظيفها الدين في السياسية، من خلال الإسلام الرسمي، ولثقل المرجعية الدينية في المجتمع، فضلاً عن أن هذا القرار سيفتح الباب لتفكيك آليات عديدة ذات خلفية دينية، مثل اشتراط الولي في زواج المرأة.
يعبر هذا الشرط عن تناقض آخر في الجزائر، فيما يخص تعامل الدولة والمجتمع مع
وضع المرأة. إذ يشترط قانون الأسرة (قانون الأحوال الشخصية) الجزائري وجود الولي، حتى يجوز زواج المرأة، لكن هذه المرأة التي تكاد تكون مواطنة من الدرجة الثانية هي أيضاً قاضية، تعمل في المحاكم الجزائرية، بمختلف درجاتها (محاكم الدرجة الأولى والاستئناف والنقض)، وتنطق بأحكام سجن ضد الرجال باسم الشعب الجزائري، بيد أنها لمّا ترغب في الزواج فهي ليست أهلاً بذلك، وبحاجة لولي (رجل).
الجدل الدائر في تونس وخارجها دلالة على مشكلة في الذهنية العربية- الإسلامية في التعامل مع وضع المرأة، ذلك أن الإسلام يُختزل في هذه القضية دون سواها، وكأن غياب المساواة والعدالة الاجتماعية وانتشار الفساد واعوجاج الحكام والتفرّد بالحكم واستفحال القمع والقتل والاستحواذ على المال العام، والاستيلاء على كل شيء من غير وجه حق، لا محل لها من الإسلام! إنه توظيف ما بعده توظيف للدين.
واضح أن جدلية المقدس والمدنس تُختزل، في غالب الأحيان، في صراع بشأن إبقاء المرأة في درجةٍ دون درجة الرجل، مع انتفائيةٍ رهيبة في مقاربة النص الديني، ما يفيد بأن المعضلة اجتماعية بالأساس، وما الدين إلا واحدة من بين الوسائل. فمثلاً في بعض المناطق في العالم العربي تُحرم المرأة أصلاً من الميراث باسم التقاليد الاجتماعية. هكذا تتغلب "القواعد" الاجتماعية على "القواعد الدينية" بمشيئة المجتمع على الرغم من إسلامه، وتحديداً بمشيئة مخلوقٍ لا يتردد في الادعاء بمشيئة الخالق لمّا يرى في ذلك مصلحةً له. ولا مخرج من هذه المعضلة في ظل الاستمرار في التخبط في الدائرة الدينية ذاتها، والعمل بالمرجعيات نفسها، وفقاً لروايةٍ وتبرير تحدّدهما اعتبارات سياسية- اجتماعية.