تبرز تلك التناقضات جلية في تغطية صحيفة اليوم السابع القريبة من الأجهزة الأمنية في مصر، والأكثر انتشارا على الصعيد الإلكتروني بين مؤسسات الإعلام المصرية، وهو ما يبدو عبر رصد وتوثيق وتحليل 83 خبرًا تناولت إشكالية تراجع قيمة "الليرة التركية" بين تاريخي 12 سبتمبر/أيلول 2018 و16 سبتمبر 2019 والتي جرى تناولها في أبواب السياسة والاقتصاد والأخبار العاجلة والرأي، ويمكن تقسيم آلية التناول للتحليل والرصد إلى مدخلين عامين:
المدخل الأول: الصياغة الخبرية لتحولات الاقتصاد التركي من ناحية تأثير تراجع الليرة، وربط الأمر بتفسيرات من قلب النظام السياسي التركي مثل إقالة الرئيس التركي لمحافظ البنك المركزي، والتوتر السياسي والتدابير الاقتصادية الشعبوية، تراجع صافي احتياطات البنك المركزي، والانتخابات المحلية وإعادتها ونتائجها، وممارسات الرئيس السياسية الموصوفة بـ"الاستبداد"، وهو ما يتم تجاهله فيما يخص وجود ذات السياسات لدى تناول الشأن الداخلي المصري من ناحية سياسات الرئيس الضاغطة اقتصاديا على الشعب، والتوتر السياسي في مرحلة ما بعد انقلاب 2013 وعدم وجود أي انتخابات حقيقية منذ ذلك التاريخ، وفقا لما تؤكده تقارير دولية، بالإضافة إلى تراجع مصر في مؤشرات الحريات والديمقراطية، ومن بينها مؤشر الديمقراطية الصادر عن وحدة "إيكونوميست إنتيليغنس" التابعة لمجلة "إيكونوميست"، إذ حلت القاهرة في المرتبة 127 بينما جاءت تركيا في المرتبة 110 من بين 167 دولة في الإصدار الخاص بعام 2018 والصادر في يناير/كانون الثاني من العام الجاري، كما أن تصنيف مصر بحسب مؤشر الحريات التابع لمؤسسة Freedom House يقل عن مؤشر الحريات في تركيا وإن كان كلاهما ضمن الدول المتأخرة، إذ حصلت القاهرة على 22/100 بينما حصلت أنقرة على 31/100 على ذات المؤشر.
وتكشف عملية الرصد عن تركيز 28 مادة تم نشرها في ذات فترة الرصد على "انهيار" العملة وتحولاتها انخفاضاً بالأساس، ولم تتناول تلك المواد مفردات "التعافي" أو "استقرار القيمة" إلا ثلاث مرات من أصل 28 مادة تروج لمفردات متكررة من قبيل "الإفلاس" و"الهبوط الحاد" و"التهاوي"، مع التركيز على إجمالي فقدان قيمة العملة الذي مثل 30 بالمئة خلال عام 2018 و40 بالمئة في 2019، مع تكرار نفس التوقعات باستمرار الانخفاض لثلاث سنوات مقبلة (حتى 2022) في مختلف المواد الصحافية التالية.
وحتى حين تذكر الأخبار استقرار قيمة العملة التركية فإنها ترجعها مباشرة لأسباب خارجية مثل ضعف الدولار، بينما تربط الانهيار بسياسات الحكومة الداخلية والخارجية وبـ "أردوغان" شخصيًا في كل خبر من الـ 28 مادة السابقة.
ومع أن المصادر التي تستند إليها أخبار تراجع الليرة أمام الدولار، تعد موثوقة دوليا مثل بلومبيرغ ورويتز، لكن التغطية لم تتناول الانهيار المماثل لقيمة الجنيه المصري خلال فترات سابقة، إذ كان سعر الجنيه مقابل الدولار 7.15 جنيهات وقت استلام السيسي للحكم في يونيو/حزيران، ووصل حتى 17.95 جنيها في يناير من العام الجاري، وفقا لموقع البنك المركزي المصري، لكن الموقع لم ينشر سوى أربع مواد فقط تتناول "انهيار الجنيه" منذ عام 2013، وكان آخرها بتاريخ 27 يوليو/تموز 2016، وتلقي باللوم على تلاعب التجار في السوق السوداء أو تنتقد ارتفاع الدولار في عهد الرئيس السابق محمد مرسي، على اعتبار أن إدارته هي السبب وراء انهيار العملة المصرية.
بالمقابل فإن المصادر التي اعتمدت عليها الصحيفة لتفسير أسباب الانهيار تركزت في صحف "سوزجو Sozcu" والقريبة من جماعة فتح الله غولن، وصحيفة Birgun اليسارية وممولها عثمان كفالا Osman Kavala والذي تم القبض عليه بعد تمويل وتنظيم تظاهرات Gezi Park عام 2014، وكذلك صحيفة "زمان" التابعة لجماعة غولن، ومصادر (قنوات، ومحللين) محسوبة على الإمارات والسعودية مثل سكاي نيوز والعربية، بالإضافة إلى قناة روسيا اليوم.
وتستحوذ صحيفة "زمان" على النصيب الأكبر من عدد الإحالات على المصادر الخبرية التركية التي تنقل عنها اليوم السابع، وهو ما يشير للانحياز السياسي والإيدولوجي من ناحية، ولتبني سياسة تهويل الأوضاع الاقتصادية من قبل الإعلام المصري، ويظهر هذا مثالا من تكرار الصحيفة و"اليوم السابع" لمعدل التضخم في تركيا كونه تخطى الـ 25 في المئة (13 أكتوبر 2018)، وهو ما يتعارض مع تقدير قاعدة بيانات inflation EU التي تصدر إحصاءات التضخم لدول العالم سنويا كونه في المتوسط 16.22 في المئة، خلال عام 2018.
المدخل الثاني: هو النيل من النظام التركي ويضم 51 خبرًا يمكن تقسيمها لثلاثة أقسام:
الأول: يتعلق بأوضاع الاقتصاد الكلي، وانصب التركيز فيها على تكرار "فقدان ثقة المستثمرين" وتكررت مفردات "نزيف" الليرة/الاقتصاد/الديمقراطية نحو خمس مرات، وتداول التوقعات الدولية بانهيار العملة ووصول سعرها إلى 10 ليرات مقابل الدولار، والاستقطاب السياسي في البلاد 37 مرة.
أما القسم الثاني فيتناول أخبار الاقتصاد الجزئي أو أوضاع الحكم الداخلية في تركيا، وضم عناوين تبدو للوهلة الأولي مثيرة للتساؤل، ومن بينها أن "الأوضاع الاقتصادية المتدهورة في تركيا وضعت 64 مليون شخص على حافة الجوع"، والأمر محض مبالغة ومخالف للمنطق فلا يتوقع أن يجوع في تركيا 80 بالمئة من الشعب، إذ أن الحد الأدني للأجور في تركيا 2600 ليرة، وهو ما يعادل 485 دولارا شهريا، بينما خط الفقر العالمي 1.9 دولار للفرد الواحد يوميا، أي ما يعادل 285 دولارا أميركيا كل شهر لأسرة من خمسة أفراد، وبالتالي يفوق الحد الأدنى للأجور في تركيا ضعف مقدار خط الفقر العالمي، بينما يبلغ الحد الأدنى للأجور في مصر 2000 جنيه، أي ما يعادل 111 دولارا أميركيا شهريا، أي ثلث خط الفقر العالمي، بعدما كان الحد الأدني 1200 جنيه عام 2018 أي نحو 66 دولارا أميركيا يفترض أن تعيش به أسرة من خمسة أفراد طيلة 30 يومًا، فماذا عن الجائعين في مصر؟ وهو أمر لم تهتم به الجريدة.
وتنقل اليوم السابع عن "زمان" أن حد الفقر في تركيا يجب أن يكون 8 آلاف ليرة شهريا أي ما يقارب 1800 دولار، وهو تعريف مريب للفقر يقارب ستة أضعاف خط الفقر المتعارف عليه عالميا كما سبق ذكره، وتشير صحيفة زمان إلى أن سعر الدولار بتاريخ نشر هذا الخبر 27 مايو/أيار 2019 ارتفع إلى 7.2 مقارنة بالليرة التركية، فيما يشير موقع poundsterlinglive لتحويل العملات لكون السعر في هذا التاريخ 6.06 ليرات في مقابل الدولار، وهذا مثال لتعمد التضليل بأرقام وهمية، ومثال أيضًا لإخفاء المقارنة بالجنيه المصري الذي ارتفع من 9 جنيهات مقابل الدولار في 2012 إلى 16.5 في نفس التاريخ المذكور ولم يتم تغطية أخباره.
وتتناول الأخبار في هذا القسم التركيز على ما يروجه الموقع ضمن دعايته المضللة ضد تركيا، ومن بينها "مخاطر الاستثمار في تركيا وتراجع قيمة الأصول التي يمتلكها العرب الكويتيون والقطريون (18 مرة جرى تكرار الأمر في مواد الموقع الإلكتروني)، والتضخم سواء عموما أو في أخبار تفصل تضخم المواد الغذائية والأدوات المدرسية (كمثال على ارتفاع تكاليف المعيشة وذكر الأمر 28 مرة)، والحرب الأهلية بين مؤيدي ومعارضي النظام الحالي، الهجرة من تركيا، الأوضاع الحقوقية "المأساوية"، انكماش الاقتصاد التركي، إفلاس الشركات التركية"، الخ.
ومن المثير للتساؤل انتقاد الصحيفة لتركيا بسبب ما قالت عنه بأنه حملة للنظام التركي لـ "تطهير المعارضة داخليا وخارجيا"، والتباكي على حقوق الإنسان كون تركيا أصبحت "سجنا كبيرا"، وأن الجريمة فيها معروفة سابقًا وهي "الانتماء لجماعة فتح الله غولن، وانتقاد قيام السلطة بحجب الآراء وتمجيد دور المعارضة (مادة منشورة في 9 يوليو 2019) وكأن "اليوم السابع" تكرر خطاب منصات المعارضة المصرية في الخارج ضد النظام المصري الذي ينكل بالفعل بهم، لكنها في محاولتها هذه تمارس التضليل الدعائي بحق قرائها فيما يخص الوضع في تركيا، في ظل عدم تناول نفس المشكلات الخاصة بإعدام المعارضين واعتقال النظام المصري 61 ألف سجين سياسي بحسب دراسة نشرها معهد التحرير لسياسة الشرق الأوسط (مقره واشنطن) في عام 2016، وعدم تغطية عملية اعتقال 2000 مصري ومصرية في أيام قليلة تم القبض على أغلبهم من الطرقات والميادين، بسبب رعب النظام الحاكم من أية تظاهرات معارضة خلال شهر سبتمبر/أيلول الماضي، إثر دعوة المقاول والفنان محمد على للتظاهر ضد سياسات النظام الاقتصادية والاجتماعية وفشله في ملفات داخلية وخارجية، وهؤلاء ألصقت بهم جميعا تهمة واحدة وهي الانتماء لجماعة محظورة، وتلك أمور تراها المؤسسة في تغطيتها لتركيا لكنها تتجاهلها في مصر.
أما القسم الأخير من المواد المرصودة فيتناول الأخبار التي تركز على "إهانة الرئيس التركي"، وذلك بتكرار العبارات المسيئة لأردوغان بنحو 170 مرة، وبمعدل يزيد عن مرتين للخبر الواحد. وفي هذا القسم نجد إهانة أسلوب الإدارة بقيادة "أردوغان" بأوصاف من قبيل: "أردوغان يدمر بلاده" - "الدكتاتور التركي"..."أردوغان يدفع ثمن غبائه"، "أردوغان يكابر"، "حماقة أردوغان"، "الأتراك يلقنون الدكتاتور درسًا".."هرتلات أردوغان"..."راعي الإرهاب الأول" ..."متهور أطاح بالليرة واقتصاد بلاده"، "مريض بالشيزوفرينيا"، "عنجهية أردوغان تجذب الأنظار"، اتهامه بـ "الجنون"، وهو ما لا يتم في أي سياق مصري في إطار تغطية الأخبار المحلية.
كما تركز الأخبار على أفكار من قبيل "يفقر شعبه وينعش خزائن أثريائه" (10 سبتمبر 2019)، "إسطنبول تنتفض ضد ديكتاتورية أردوغان.. النظام التركي يترنح" (7 مايو 2018)- وتكررت تلك المعاني في الأخبار 7 مرات على الأقل، تناوله باعتباره زعيم عصابة يأمر أتباعه بالهجوم على المعارضين، ووصفه بالجنون، والديكتاتورية، إظهاره كـ "معدوم التأثير" في المحيط الدولي (13 أكتوبر 2018)، البراغماتية والنفاق (13 أكتوبر 2018)، الفساد (4 سبتمبر 2019)، التبذير "القصر التركي يكبد خزينة الدولة 200 مليون ليرة سنويا (4 سبتمبر 2019) ومليار ليرة في خمسة شهور (21 يوليو 2019)، ومليار ونصف ليرة نفقات مؤسسة الرئاسة في خمسة شهور سنة 2019 بعدما كانت 198 مليونا، راتبه 74 ألفا، رواتب مساعديه 18 ألف ليرة (2 يوليو 2019)، الفشل (10 سبتمبر 2018)، دعم الإرهاب (13 أكتوبر 2018) إلى آخره.
المثير أن الاتهامات السابقة المتعلقة بالتبذير المالي والفساد لم تغطها الصحيفة ولا موقعها فيما يتعلق بالسياق المصري الذي تعمل فيه، ويفترض أن جمهورها وهو رأسمالها الحقيقي مهتم به، بعد أن كشف الفنان المصري ورجل الأعمال محمد علي حجم الإنفاق السفيه على القصور الرئاسية من قبل زوجة الرئيس وعائلته والفساد الذي تتبناه المنظومة الحاكمة.