تناتيش ونغابيش

15 مارس 2020
+ الخط -
ـ في كتابه البديع (في ربوع الأزبكية) الذي يحكي عن أحوال حيّ الأزبكية العريق في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، نقل الكاتب محمد سيد كيلاني قصة غريبة، بطلها مطرب قاهري قديم اسمه حسن الآلاتي، كان يتجول كثيراً في شوارع منطقة (وجه البركة)، وبالتحديد في منطقة يطلق عليها "الحصان"، وكان يكتب عن بعض مشاهداته خلال تلك الجولات، وقد اختار كيلاني مما كتبه الآلاتي السطور التالية: "لما رأيت الخلق، وخصوصاً في جهة الحصان، منعكفين على استعمال الصغار في أدبارهم، وشاع وذاع هذا الفسق، وكثر ذلك في البلد حتى إذا مرّ الرجل الصالح من جهة الحصان أو نواحيه، يجتمع عليه المخنث والاثنان والعشرة، ويقولون له "ولع سيجارتنا" مثلاً أو "أعطنا كبريتاً"، فإن أبى ذلك أو أعطاهم ما طلبوه فلا يسلم من أذاهم، بل ربما يدعون عليه أنه فعل ببعضهم ويأتي شهود منهم فيهم ويشهدون على الرجل الصالح التقي الديّن أنه فعل بالمخنث كذا وكذا مرة. ولهم قوادون ينزلون على المارين في طريقهم، أي في الشارع من جهة الحصان، ويتعرضون للمارة، فإن كان الرجل ـ أعني من المارة ـ من الذين يستحون ويخافون على أعراضهم، يمد يده في جيبه ويخرج الكيس ليعطي الخبيث منهم قرشاً أو قرشين أو أكثر، يريد أن يدفعهم عن نفسه بذلك القدر، فيمد الخبيث يده هو والذين معه ويخطف الكيس، وإن مانع الرجل عن نفسه، ضربوه ونهبوه، وربما حصل ضرب ببعض الأسلحة، والعجب أنهم يأخذون الناس من الطريق ويدعون عليهم عند الحكام أنهم فعلوا بهم ولم يعطوهم الأجرة، وتسمع الخائن منهم يقول: أعطني طرقتي لأنك أفسدت علي سفرتي". 

كان حسن الآلاتي متأثراً بما شاهده، فلم يكتف بروايته نثراً، بل قرر أن يقوم بكتابته شعراً ليسهل غناؤه بعد ذلك وإيصاله إلى جمهور أكبر، فكتب الأبيات التالية: 

"جاعلين الفسق والسرقة تجارة 

أول الأشكال يقولوا: هات سِجاره

لو رضيت أخذوك لقهوة أو لحاره

وإن أبيت عرّوك ولو كنت العناني 

بطّلوا الناس العذارى والغواني

بالدكور المُرد أولاد الزواني"

لكن التاريخ حفظ لنا الأبيات والقصة، ولم يحفظ لنا لحنها، ومن يدري ربما بقي لحنها في الذاكرة الجمعية، بعد أن تمّ تغيير كلماته إلى كلمات وطنية أو دينية، كل شيء جايز. 

ـ مما يحكيه محمد سيد كيلاني أيضاً في كتابه عن تاريخ تلك الفترة، حكاية عن أول تحذير من التدخين، ظهر قبل قرون من لطع التحذيرات من التدخين على علب السجائر، حيث كتب الإسحاقي في تاريخه متحدثاً عن آفة انتشار الدخان في مصر، والذي يقول إنه ظهر لأول مرة سنة 1595 ميلادية، وحين تحدث عن عيوبه لم يكتف بذكر عيوبه الصحية، بل أضاف إليها لمسة عنصرية وأخرى طبقية، يقول الإسحاقي في تحذيره من التدخين: "إن الدخان مضر بالأبدان، وهو يابس الطباع، لا شيء فيه من الانتفاع، مبطل لحركة الجماع، مسود للأسنان، مهرب لملائكة الرحمن، وعاقبته وخيمة، ومداومة شربه ذميمة، يورث النتن في الفم والمعدة ويظلم البصر، ويطلع بخاره على الأفئدة، ومن زعم أن شربه محرق للبلغم فقد أخطأ فيما زعم، وقوله في ذلك غير صحيح، ولو لم يكن من دناءته إلا ولوع السودان به والأجلاف لكان في ذلك ما يكف عنه الأشراف". 

ـ أخذ القارئ الكريم يعاتبني على بعض ما أنشره ويعده تجاوزاً لا يجب التسامح معه، وبعد أن عجزت عن إقناعه بوجهة نظري، طلبت منه أن يسمح لي بأخذ رأيه في قصة قصيرة أريد نشرها قريباً، وقرأت له الآتي: "دخلت سيدة على قوم يصلون فقرأ الإمام قوله تعالى: "فانكحوا ما طاب لكم من النساء"، وجعل يرددها، فجعلت تعدو وهي هاربة حتى جاءت لأختها وقالت: "يا أختاه، ما زال الإمام يأمرهم أن ينكحونا حتى خشيت أن يقعوا عليّ"، وحين انشال وانحطّ من شدة الغضب، قلت له إنه لو هدأ لأخبرته أن هذه القصة ليست من تأليفي بل هي قصة يرويها الحافظ الأبشيهي في كتابه (المستطرف في كل فن مستظرف) الذي لا تخلو مكتبة تراثية منه، ولو عاد إلى مكتبته وفتّش فيها لربما وجد أنه يحتفظ بالكتاب داخلها بتقدير واعتزاز، ولو فتّش في كتب التراث العربي والإسلامي الموجودة لديه، لوجد ما هو أكثر جرأة من هذه القصة، بالطبع كنت أعقل من أن أتصور أنني أفحمت صاحبي أو أقنعته بضرورة أن يغضّ الطرف عمّا لا يعجبه، وأن يدع ما يغيظه إلى ما لا يغيظه، وربما كانت أبرز نتيجة لما قلته أنه سيبدأ بمطالبة توسيع دائرة الرقابة والمنع لتشمل الكتب القديمة، بدلاً من التركيز على الكتب الحديثة فقط. 

ـ في كتابه الممتع (طرائف ومسامرات) يحكي الدكتور محمد رجب البيومي عن شاعرة مصرية لم تنل نصيبها من الشهرة اسمها منيرة توفيق، يصفها بقوله: "كانت متواضعة تكتب الشعر لنفسها ولا تنشر منه شيئاً إلا إذا دعت ضرورة ملزمة، زوجها كان يحتل منصباً لامعاً في وزارة الداخلية، عزم على طلاقها لأسباب لا تعرفها، ولا يهمنا أن نتلمس أسبابها"، لكنه يروي أنها كتبت قصيدة نشرتها بمجلة الرسالة التي كانت لا تزال في عامها الأول، تعاتب زوجها على قرار الطلاق قائلة: 

مالي أراك معاندي ومعذبي في غير طائل 

لم ترع لي صلة الهوى وهجرتني والبحر قاتل 

هل رُمتَ أن تغدو طليقاً لا ينال هواك حائل

أو رُمتَ غيري زوجةً يا للأسى فيما تحاول 

إن تبغَ مالاً فالذي أدريه أن المال زائل

أو تبغَ حسناً فالمحاسنُ جمّةُ عندي مواثل

أو تبغَ آداباً فأشعاري على أدبي دلائل

أنا ما حفظت سوى الوفاء ولا ادخرت سوى الفضائل

فجزيتني شر الجزاء وكنت فيه غير عادل 

أحدثت القصيدة بعد نشرها ردود فعل كثيرة نشر بعضها على صفحات مجلة (الرسالة) ونشر البعض الآخر في مجلة (الصباح)، اختار الدكتور البيومي منها قصيدة لشاعرة اسمها خيرية أحمد جاء فيها: 

عجبي لزوجكِ كيف غيّر عهده بعد التواصل 

هل للخلال الباهرات وللفضائل من مماثل

ولرُبّ رأي قد رآه الزوج حقاً وهو خائل

وتعدد الزوجات في الأسرات مهزلة المهازل

وأخال أنكِ تحلمين وأن هذا الحلم زائل

سيعود زوجك للوئام وليس عند الخلف طائل

في السياق نفسه كتبت شاعرة اسمها ناهد فهمي ولكن بلهجة أكثر غضباً: 

إني أرى بين السطور دموع قلبك كالجداول 

لا تيأسي فلربما عاد العَقوق إلى التواصل 

كم من ضحايا للرجال وكم نعاني من نوازل 

لا يدري أحد هل أثرت تلك الحملة الشعرية النسائية على الزوج، خاصة أن مجلة (الرسالة) كانت من أنجح المجلات الأدبية في مصر وقتها، أم أن أمراً غير ذلك جعل الزوج يراجع نفسه ويقرر العودة لزوجته منيرة توفيق التي كتبت قصيدة تعلن فيها ختام القصة: 

قد عاد لي زوجي الكريم وجاء يقرع سنّ نادم

من بعد ما قدرت أن رجوعه أضغاث حالم

هي غضبة شعرية أدت إلى حسن الخواتم

فعلت به ما ليس تفعله العزائم والتمائم

ولعل سبب اختفاء ذكرها بعد تلك الأبيات أن زوجها اشترط عليها أن لا تعود إلى الشعر لكي تعود إلى البيت، وربما كان لها أشعار تكتبها لنفسها ولا تنشرها، قد يجدها أحد الأحفاد ذات يوم، وينشرها لنعرف منها المزيد عنها وعن حياتها. 

ـ في كثير من الكتب التي تتحدث عن الشعر الشعبي في مصر في عصر المماليك، ستجد ذكراً للشاعر الساخر ابن سودون، وستجد نماذج من شعره الساخر السابق لعصره، ربما كان من أشهرها ما يمكن تسميته "قصيدة البديهيات" التي يقول فيها: 

"الأرض أرض والسماء سماء 

والماء ماء والهواء هواء 

والبحر بحر والجبال رواسخ 

والنور نور والظلام عماء 

والحر ضد البرد قول صادق 

والصيف صيف والشتاء شتاء" 

لكنني أحب له قصيدة أقل شهرة، وهي مختلفة عن الكثير من شعره، كتبها في رثاء أمه، وقال فيها: 

"لموت أمي أرى الأحزان تحنيني 

فطالما لحستني لحس تحنيني 

وطالما دلّعتني حال تربيتي 

خوفاً على خاطري كي لا تبكيني 

أقول مَم مَم تَجي بالأكل تطعمني 

أقول إمبو تجي بالماء تسقيني 

إن صحت في ليلة وأ وأ لأسهرها 

تقول "هُو هُو" بهزٍ كي تُنَنّيني 

كم كحّلتني ولي في جبهتي جعلت 

صوصو بنيلي كم كانت تحنيني 

وربما شكشكتني حين أغضبها 

وبعد ذا كشكشتني كي تُرضّيني 

ومن فقيهي أن أهرب ورام أبي 

مسكي وبعثي له كانت تُخبّيني 

وزغرطت في طهوري فرحة وغدت

تنثر الملح من فوقي وترقيني

وفي زواجي تصدت للجلاء عسى

على المنصة تلقاني بتزييني 

وربّت أولادي أيضاً مثل تربيتي 

وبعد ذلك ماتت آه وا أنيني 

وخلفتني يتيماً ابن أربعة 

وأربعين سنينا في حسابيني 

يعظم الله فيها الأجر لي وكذا 

لي في من بعدها، جودوا بآمين". 

حفظ الله لكم أمهاتكم جميعاً، وكفاهن وكفاكم شر الأوبئة والأعاصير وسائر الكوارث.  

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.