تناتيش ونغابيش

04 مارس 2020
+ الخط -
ـ في كتابه الممتع (حكايات صحفية) أشار الكاتب الراحل حسين قدري إلى عدد من أشهر الأخطاء المطبعية التي شهدها خلال مشواره الصحفي الطويل قائلاً: " نشرت إحدى الصحف إعلاناً عن ملهى ليلي يفتتح موسمه الجديد بمجموعة من (أقذر) الفنانين، وهي طبعا (أقدر الفنانين)، وفي تحليل إخباري جاءت عبارة "وقد صرح السفيه فلان الفلاني" والمقصود طبعا "السفير"، أو عندما نشرت إحدى المجلات برامج الإذاعة وفيها أنه في الساعة كذا أغنية للمطرب ماهر الحمار، والمقصود طبعاً ماهر العطار، ونشرت صفحة يومية في صفحة الوفيات نعياً يقول: "إتحاد كلاب كلية الزراعة ينعي الإبن البار، والمقصود طبعا إتحاد طلاب وليس كلاب. ولأن حرف (ز) في معظم ماكينات صف الحروف يكون مع حرف الـ (أ) ذات الهمزة العلوية في مفتاح واحد، فإن كارثة ممكن أن تحدث نتيجة أن يحل حرف الـ (ز) مكان حرف الـ (أ) في بعض الأسماء، كما حدث في إعلان عن شركة ميتلاند تكرم أبناءها "بناء على اختيار المهندس على عزت زبو الفضل رئيس مجلس الإدارة". نفس الشيئ تقريبا حدث في غلاف كتب من كتب التراث حيث تم استبدال حرف الذال بحرف الزاي وتم سقوط حرف النون في عبارة (حققه الفقير إلى الله العلامة فلان الفلاني غفر الله له ذنبه) وأترك لك تخيل العبارة بعد أن جرى لها ما جرى".

ـ إلى عشاق أكذوبة الزمن الجميل الذين يتصورون أن الانهيارات الكبرى تحدث فجأة ودون أسباب أو مقدمات، أهدي هذه الفقرة التي يصف بها الناقد أحمد رشدي صالح أحد المواسم الثقافية في مصر في سنوات الخمسينات، والتي ينقلها عنه الأستاذ وديع فلسطين في كتابه (قضايا الفكر في الأدب المعاصر) وقال فيها ما يلي: "هذا الموسم كان تعسا بائسا فقيرا، لم يخرج فيه عمل أدبي كبير ولم تظهر فيه دعوة أدبية جديدة، كانت كل مخلوقاته أشياء صغيرة فاترة متشابهة، كل شيء فيه كان يحتضر، القصائد كانت أشلاء، القصص القصيرة كانت صورة مكررة للقصص التي ظهرت قبل عامين وقبل عشرة أعوام، الدراسات الأدبية معدومة أو ممزقة، النقد الأدبي إما صراخ وشتائم وقذف في حق الأشخاص، وإما لا شيء أبداً، شيوخ الأدب مفلسون وشباب الأدب أشد إفلاساً، والموسم كله موسم ركود فظيع لا جديد فيه ولا ثمرة ولا نتيجة، لقد كان شتاء هذا العام موسم الثلج في حياة الأدب، فأي سبيل للخروج من الموت؟".


ـ في السياق نفسه، ولكن في فترة زمنية أسبق، كتب عباس محمود العقاد في كتابه (مطالعات في الكتب والحياة) يصف أحوال التمثيل في مصر في ما نطلق عليه الآن (زمن الفن الجميل) قائلاً: "على أنه إذا كان لا بد من إبداء رأيي في تمثيل مصر، قلت إنه مقتلة للوقت، بل مذبحة طائشة، يذهب فيها دم هذا البرئ المظلوم جهارا، ليلا ونهارا، وما من حسيب ولا رقيب... ولست آمل أن أرى شيئا من التمثيل الصحيح في بلدنا هذا، في غير معاهد الصور المتحركة، وجوقات أوروبا التي تنزل بمصر آونة بعد آخرى، ومن رأى ميجوكين يمثل في رواية كين، وفيدت يمثل في رواية الضريح الهندي، أو نلسون، فقل لي بالله كيف يجرؤ بعد ذلك على أن يلصق اسم التمثيل بهذه المساخر التي يعرضونها هنا، وما هي إلا محاكاة فردية لهذه الصناعة، وما هي إلا تمثيل للتمثيل... وعساك تسألني: أما من رجاء؟، فأقول: نعم لا يأس مع الحياة.. ولكن الأمل ضعيف والشقة طويلة وأجر الصبر غير مضمون، لأن التمثيل ـ بل الفنون على بكرة أبيها ـ مبتلاة بداء العصر العضال، وأعني به داء الأنانية، فإن شفي العصر من دائه شفي التمثيل بشفائه، وإلا فليسدلوا عليه الستار، أو فليرفعوه ولكن على الخزي والصغار"، وبعد عشرات السنين على ما كتبه العقاد استشهد به نجيب سرور في مقال له بعنوان (عن نفاية تاريخ العصر وخلاصة تاريخ العصر)، نشره في كتابه (هموم الأدب والفن) وأضاف إليه الكثير في نقده لأحوال التمثيل والممثلين في الخمسينات والستينات، وقد كان ما كتبه نجيب سرور على قسوته أرحم بكثير مما كتبه عن التمثيل والممثلين في أمياته الشهيرة، التي ستجدها كاملة على الإنترنت بصوته.

ـ في كتابه (في عالم المتنبي) يرى الدكتور عبد العزيز الدسوقي أن مدح الشاعر الكبير أبي الطيب المتنبي لسيف الدولة الحمداني، لم يكن في الحقيقة إلا مدحاً لشخص المتنبي نفسه، لأن المتنبي خلال فترة ارتباطه بسيف الدولة لمدة تسع سنين كان يحقق أحلامه السياسية التي حاول تحقيقها وهو أصغر سناً، عندما حاول أن يقوم بثورة سياسية ودينية، تبعه فيها البدو الرحل وبعض المتمردين، لكنه أخفق في ثورته، وسجن في حمص عامين، وبعد خروجه من السجن نحو عام 923، أثرت فيه تلك الهزيمة وذلك السجن تأثيراً عميقاً، وبذرت في نفسه بذور تحوله النفسي، حيث استقر في يقينه أنه لا يجيد فن السياسة إلا من خلال الشعر، ولقد حقق له سيف الدولة شيئا من المشاركة الفعلية في السلطة، فقد كان يصطحبه معه في كل غزواته، ويصحبه أيضا في أيام فراغه وينزله من بلاطه منزلة رفيعة، وأشبع في نفسه ذلك الشوق العظيم إلى السلطة والمجد، ولذلك نرى أنه عندما لا ينال أحلامه من سيف الدولة الذي لم يمنحه إمارة ولاية كما كان يتمنى يصاب بحزن شديد ويكتئب ويعتزل مجلس سيف الدولة، ويكتب معبراً عن ذلك بقوله:

وا حَرّ قلباهُ ممن قلبه شَبِمُ.. ومن بجسمي وحالي عنده سقم
مالي أكتِّم حبا قد برى جسدي.. وتدعي حب سيف الدولة الأمم
يا أعدل الناس إلا في معاملتي.. فيك الخصام وأنت الخصم والحكم
أعيذها نظرات منك صادقة أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم.

ـ أخيراً، في إشارة سريعة إلى أشهر الأحداث الخيالية والمقولات المنسوبة خطئاً إلى أشخاص ما، والتي لا يكف الناس عن الاستشهاد بها، ولا يلقون بالاً لمن ينبههم إلى خطئها، يكتب إدواردو جاليانو في كتابه الرائع (مرايا) ـ الذي ترجمه صالح علماني ـ قائلاً: "حدث آدم وحواء يقضمان التفاحة غير موجود في الكتاب المقدس، أفلاطون لم يكتب أبدا جملته الشهيرة: الموتى وحدهم من رأوا كيف تنتهي الحرب، دون كيخوته دي لامانتشا لم يقل قط: إنها تنبح ياسانتشو وهذا إشارة إلى أننا نتقدم، لم يكتب فولتير ولم يقل أوسع عباراته شهرة: لا أتفق معك في الرأي ولكنني أدافع حتى الموت عن حقك بقول رأيك، جورج فريديتش هيغل لم يكتب قط: النظرية رمادية وشجرة الحياة خضراء، شرلوك هولمز لم يقل قط: هذا أساسي ياعزيزي واطسن، في أي من كتبه وبياناته لم يكتب لينين: الغاية تبرر الوسيلة، برتولت بريخت ليس مؤلف قصيدته الأوسع شهرة: في البدء اقتادوا الشيوعيين ولكني لم أهتم لأني لم أكن شيوعيا، خورخي لويس بورخيس لم يكن مؤلف قصيدته المنتشرة: إذا ما استطعت أن أعيش حياتي من جديد سأحاول اقتراف مزيد من الأخطاء"، ولا أظن أن إدواردو جاليانو بخبرته الطويلة في الحياة كان يظن أن تصحيح هذه الأخطاء سيقلل تواجدها السرطاني في بوستات الفيس بوك وتغريدات تويتر، ومن يدري ربما كانت هناك الآن مقولات منسوبة له زوراً تنتظر من يعفيه من مسئوليتها يوماً ما.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.