عندما يصرّ زعيم حزب العمال البريطاني، إيد ميليباند، على نفي تقارير تتحدث عن مؤامرة من قبل نواب في حزبه للإطاحة به، يُسارع المراقبون والإعلاميون للبحث والنبش في خفايا الأمور، على أساس أن "لا دخان من دون نار". وقد اضطر ميليباند إلى الظهور خلال الأيام الماضية في أكثر من وسيلة إعلام بريطانية وعالمية للدفاع عن قيادته، ونفي الإشاعات، واصفاً ما يروج عن قيام بعض النواب بطلب طرح الثقة في قيادته بالكلام "الهراء" و"البعيد عن أي منطق". كما أنكر وجود أي تباينات أو انقسامات داخل قيادة الحزب أو داخل كتلة الحزب البرلمانية.
ويقول المشككون في قدرة ميليباند على قيادة الحزب للفوز في الانتخابات العامة المقبلة في مايو/أيار 2015، إن شعبية ميليباند شهدت انهياراً متواصلاً. فقد أظهر استطلاع للرأي أجري بعد شهر من توليه زعامة الحزب قبل أربع سنوات، أن الرجل يتمتع برضا 41 في المائة من الناخبين، في حين عبّر 19 في المائة فقط عن عدم رضاهم. أما اليوم فقد كشف أحدث استطلاع للرأي أجرته مؤسسة "إيبسوس" أن نسبة الراضين عن قيادة ميليباند تراجعت إلى (34 في المائة) وهي أدنى شعبية يحظى بها أي زعيم سياسي بريطاني منذ زمن بعيد.
التراجع في شعبية زعيم حزب العمال يثير حالة من الذعر والتململ في صفوف حزب العمال. ويعيد للأذهان الأيام التي سبقت هزيمة الحزب في الانتخابات العامة للعام 2010، عندما هبطت شعبية زعيم الحزب آنذاك، غوردن براون إلى 25 في المائة قبل ستة أشهر من موعد الانتخابات. وأوجه الشبه الكثيرة في القيادة الضعيفة بين ميليباند وبراون، تجعل قيادات الحزب وقواعده تشعر باليأس من إمكان تحقيق أي فوز في انتخابات 2015، إذا ما بقي ميليباند على رأس الحزب.
وعلى الرغم من أن الأوساط القيادية في الحزب لم تشهد أي تحركات "تمردية" ظاهرة، كما أن أيّاً من قيادات الحزب لم يكشف عن معارضة صريحة لقيادة ميليباند، ولم يجرؤ أي من الأسماء اللامعة في الحزب على تقديم نفسه كزعيم بديل، إلا أن الرسائل غير المباشرة المطالبة بـ "تنحي" ميليباند، باتت تتوالى خلال الأيام القليلة الماضية. ومن المرجح أن تتسارع وتيرة ترددها كلما اقترب موعد الانتخابات العامة.
أولى الرسائل الواضحة والعلنية جاءت أول من أمس، فيما وصفه المراقبون بضربة جديدة وقوية لقيادة ميليباند، إذ حذرت مجلة "نيو ستيتسمان"، المعروفة تقليدياً بدعمها حزب العمال، من نهج ميليباند، ونزيف شعبية الحزب لصالح أحزاب الخضر والحزب الوطني الاسكتلندي، ولصالح حزب الاستقلال اليميني. وقد انتقد رئيس تحرير المجلة جيسون كاولي، ميليباند وقيادته بالقول إنه "اشتراكي من الطراز القديم، لا يفهم حقاً تطلعات الطبقة المتوسطة، إنه مفصول عن الواقع".
ومع أن الكثير من الإشاعات والأقاويل انتشرت وتشي بحركة تمرد داخل الحزب، إلا أن تحقيق ذلك يبدو صعباً للغاية في الوقت الراهن، لأن أنظمة الحزب الداخلية تفرض أن يحصل أي مرشح لقيادة الحزب على تزكية 20 في المائة من نواب الحزب في مجلس العموم. وللحزب الآن 257 نائباً؛ أي أن أي مرشح لزعامة الحزب بدلاً من ميليباند يحتاج إلى التزكية من 52 نائباً. وهو الرقم الذي يبدو بعيد المنال عن أي من الشخصيات الطامعة في قيادة الحزب، ولا سيما أنّ أيّاً من الأسماء المطروحة كبديل لا تتسم بالقدرة الكافية من القدرات الشخصية والمهارات القيادية التي تميزها كثيراً عن ميليباند.
وفي محاولة لتفسير الحالة التي تمرّ بها زعامة ميليباند لحزب العمال، لا يعقد دان هودجيز في صحيفة "تلغراف" أي أهمية لعدد النواب الذين يرفعون صوتهم اليوم مطالبين بتنحي ميليباند، بل الأهمية في تلك الأغلبية الصامتة من نواب الحزب التي لم تهب للدفاع عن قيادة الرجل. وهو ما ينذر بأن هذه الأغلبية لا ترى في الرجل ما يدافع عنه، وبالتالي قد تبدو أقرب إلى التمرد، الأمر الذي ستكشف عنه الأيام القليلة المقبلة. ويرى هودجيز أن "ما يواجهه ميليباند هذه الأيام ليس انقلاباً بل هو أخطر من ذلك، فالانقلابات عادةً ما تكون مؤامرات منظمة ومخطط لها بإحكام، يقوم بها عدد صغير نسبياً من الأفراد". ويضيف "ما رأيناه خلال الـ 48 ساعة الماضية هو سيل من الغضب والإحباط المتدفق عفوياً، تراكم تدريجياً داخل كتلة نواب حزب العمال في البرلمان على مدى السنوات الأربع الماضية".
تبدو قيادة ميليباند لحزب العمال البريطاني في مهب الريح، وقد لا تفيد محاولات الرجل في مواجهة العاصفة الصامتة والإبقاء على وحدة الحزب وقيادته، عبر "إصلاحات" ضيقة في المواقع الأساسية داخل "حكومة الظل" والمراكز القيادية في الحزب، لأن التحديات التي يواجهها حزب العمال لا تقتصر على شخصية زعيم الحزب وقيادته الضعيفة. إذ يضاف إلى ذلك تنامي شعبية حزب الاستقلال اليميني في إنجلترا، وازدياد قوة الحزب القومي الاسكتلندي، بالإضافة إلى التراجع العام في منسوب ثقة الرأي العام بكل الأحزاب السياسية.
الدخان المتصاعد من صدور قيادات حزب العمال وقواعده، ينذر بنار تثلج صدور المنافسين في أحزاب المحافظين والاستقلال والأحرار الديمقراطي، الذين يتمنون المزيد من الاحتراب داخل البيت العمالي. فأي خسارة تلحق بحزب العمال في الانتخابات العامة المقبلة، تعني مكسباً لأي منهم.